حميد الكفائي
تتأرجح بريطانيا سياسيا واقتصاديا بين اليمين واليسار منذ مئة عام تقريبا، بعدما أسست نقابات العمال عام 1900 حزبا يساريا يمثل مصالح الطبقة العاملة، فصار اليسار يأتي إلى الحكم بعد أن يتخبط اليمين، بينما يعود اليمين إلى الحكم إثر تطرف اليسار.
اليمين، المتمثل بحزب المحافظين، يحكم بريطانيا منذ عام 2010، لكنه بدأ معتدلا في السنوات الخمس الأولى، في ظل زعامة السياسي الوسطي ديفيد كاميرون، ثم اتجه يمينا، مُلْجِئاً كاميرون إلى إجراء استفتاء عام حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فكانت نتيجة الاستفتاء لصالح الانسحاب، بفارق ضئيل، فاضطر كاميرون إلى الاستقالة عام 2016، إذ صار صعبا عليه البقاء في السلطة، بينما الاستفتاء سار عكس توجهاته.
انتخب الحزب وزيرة الداخلية، تريزا مي، المعتدلة، التي كانت تؤيد البقاء في أوروبا، لكنها اضطرت للسير يمينا، وفق نتائج الاستفتاء وتوجهات غالبية مؤيدي الحزب، فلم تستطع الاستمرار طويلا، إذ اضطرت إلى الاستقالة عام 2019، بعد أن رفض البرلمان خطتها للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فآلت الزعامة إلى اليميني المتشدد، بوريس جونسون، الذي قاد حملة الانسحاب من أوروبا.
لكن تطرف اليمين في عهد جونسون، وخلفيه ليز تراس وريشي سوناك، أضعف اقتصاد البلاد وأخرجها من بيئتها الأوروبية، التي ناضلت بقوة كي تدخلها في سبعينيات القرن الماضي، يضاف إلى ذلك تفاقم المشاكل بسبب تزايد أعداد اللاجئين غير الشرعيين الواصلين إلى المملكة المتحدة عبر الزوارق، ثم اندلاع أزمات غير متوقعة، مثل جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية.
كل هذه العوامل دفعت الشعب البريطاني إلى الاتجاه يسارا، خصوصا وأنه لم يعد متشددا، في ظل زعامة السير كير ستارمر، القانوني المعتدل المنتمي إلى الوسط السياسي.
المفارقة أن اليمين البريطاني (المعتدل)، بقيادة أدوارد هيث، هو الذي قاد بريطانيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973، بدعم أمريكي، بينما أخرجها منه اليمين المتشدد، بقيادة بوريس جونسون، عام 2020، بدعم أمريكي أيضا، بعد عضوية دامت 47 عاما، حققت بريطانيا خلالها انسجاما واسعا مع أوروبا في مجالات عديدة، خصوصا في عهد حكومة اليسار المعتدل، برئاسة توني بلير وغوردون براون، التي حكمت لـ14 عاما متواصلة.
ومن دلائل التوجه اليساري البريطاني أن حزب العمال، قد اقتلع المحافظين من مقعديْن كانا يعتبران معقلين من معاقل المحافظين، في انتخابات فرعية أجريت في منطقتي ولينغبورا وكينغزوود، بفارق كبير في عدد الأصوات، ما يؤشر إلى أن تغيراً سياسياً جذرياً يلوح في الأفق، وأن المحافظين الذين يحكمون حاليا، سوف يتجهون إلى المعارضة في الانتخابات المقبلة، ليحل العمال محلهم في الحكومة.
هناك انتخابات فرعية أخرى سوف تجرى في 29 فبراير في منطقة روتشديل، وهي دائرة عمالية تأريخيا، لكن حزب العمال اضطر للتخلي عن دعم مرشحه الرسمي، أزهر علي، بسبب إطلاقه تصريحات تنتقد إسرائيل، والتي اعتبرت معادية للسامية. لذلك فإن هذا المقعد لن يذهب إلى حزب العمال، لكنه لن يذهب إلى المحافظين، وإن فاز أزهر علي بالمقعد، فإنه لن يمثل العمال في البرلمان.
يعتبر حزب المحافظين من أعرق الأحزاب البريطانية، وهو الحزب الذي يحكم البلاد معظم الوقت، وكان البريطانيون يحتجون عليه أحيانا فيصوتون إلى حزب الأحرار، الذي كان يشكل الحكومة في فترات الغضب الشعبي من المحافظين.
لكن تأسيس النقابات لحزب العمال عام 1900، إثر التغيير الديموغرافي الكبير الذي شهدته بريطانيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وانتقال الناس من الأرياف إلى المدن للعمل في المصانع، إذ صار اقتصاد البلاد يعتمد على الصناعة، قد دفع الشرائح المجتمعية الأكثر فقرا لتأييد الحزب، الذي تأسس أساساً لتمثيل مصالح الطبقة العاملة الآخذة في الاتساع.
وكان لإصدار البرلمان البريطاني (قانون تمثيل الشعب) لعام 1884، الأثر الكبير في توسيع قاعدة حزب العمال الشعبية وتشكيله المعارضة الرئيسية لحزب المحافظين لأول مرة عام 1922، إذ سمح ذلك القانون لحوالي 60% من البريطانيين، بالتصويت في الانتخابات، وفق وثائق الأرشيف البريطاني، أو ما يسمى بـ(المشاركة الإيجابية)، التي تقابل (المشاركة السلبية) وهي الترشح في الانتخابات لنيل عضوية البرلمان أو المجالس المحلية.
ولم يحصل المواطنون البريطانيون جميعا، نساءً ورجالا، على حق التصويت، دون شروط، إلا في عام 1928، عندما أزال (قانون تمثيل الشعب) القيود كليا عن التصويت، فلم يكن للنساء حق التصويت حتى عام 1918، وكان حينها مقيدا بشروط. وحتى تصويت الرجال لم يكن حرا بالكامل قبل ذلك التأريخ، إذ كانت هناك بعض الشروط التي تقيد التصويت، منها مثلا شرط امتلاك الأرض والعقارات بقيم محددة، أو السكن في مكان محدد لفترة سنة متواصلة، تقلصت لاحقا إلى ستة أشهر، وما إلى ذلك من قيود.
وعند بروز حزب العمال مطلع القرن الماضي، بقيادة النقابي الأسكتلندي، كير هاردي، الذي يحمل زعيم الحزب الحالي اسمه تيمُّناً به، استقطب شريحتي الديمقراطيين الاجتماعيين والاشتراكيين الديمقراطيين، فتراجعت شعبية حزب الأحرار، وانحصرت بشرائح مجتمعية هامشية، وصار بعض الناخبين يصوتون له عندما يحتجون على الحزبين الرئيسيين، المحافظين والعمال، ومازالت هذه الحالة مستمرة حتى اليوم.
آخر رئيس وزراء من حزب الأحرار كان ديفيد لويد جورج، الذي حكم في الفترة 1916-1922، وكان ذلك بمساندة حزب العمال له. لكن الحزب اشترك لاحقا مع الحزبين الرئيسيين في فترات عدم توفر غالبية سياسية كافية لأي منهما. فقد أيد حكومة العمال، برئاسة جيمز كالاهان، في الفترة 1977/1978، عندما فقدت غالبيتها البرلمانية، مقابل تنفيذ بعض سياساته، واشترك مع المحافظين في حكومة ائتلافية في الفترة 2010-2015، لعدم توفر غالبية لهم في البرلمان، فصار زعيمه، نيك كليغ، نائبا لرئيس الوزراء، ديفيد كاميرون.
يبدو أن الأمور تسير حاليا لصالح حزب العمال، خصوصا بعد أن ابتعد عن السياسات المتشددة، التي اتبعها زعيمه السابق، جيرمي كوربين. الزعيم الجديد، كير ستارمر، ينتمي إلى الوسط السياسي المعتدل، وسجل الحزب منذ تأسيسه يشير إلى أنه لا يفوز في الانتخابات في ظل قيادة يسارية متشددة. فقد ظل خارج السلطة لثمانية عشر عاما في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في ظل قيادة اليساري المتشدد مايكل فوت، ثم اليساري الأقل تشددا، نيل كينوك، ولم يصل إلى السلطة إلا بعد أن تولى توني بلير زعامته عام 1994، وتمكن من تعديل دستوره، خصوصا المادة الرابعة، التي تلزم الحزب بتأميم وسائل الإنتاج وجعلها بيد الدولة.
وبعد خسارة الحزب في انتخابات عام 2010، عانى من الانقسام الحاد بين اليمين واليسار، وهذه الحالة تتكرر بعد كل خسارة انتخابية، فتنافس على زعامته الشقيقان الوزيران في حكومتي توني بلير وغوردون براون، وزير الخارجية ديفيد ميليباند، ووزير شؤون مجلس الوزراء، أد ميليباند، وكان وضعا نادرا وطريفا أن يتنافس شقيقان على زعامة حزب سياسي، ويخوضا حملة انتخابية ضد بعضهما البعض.
وفي النهاية، اختار الحزب الشقيق الأصغر، الأكثر يسارية، أد ميليباند، زعيما له، لأنه كان يتمتع بتأييد النقابات. لكنه خسر أمام ديفيد كاميرون في انتخابات عام 2015، فاستقال، لينتخب الحزب يساريا مبدئيا، أكثر تشددا منه، وهو جرمي كوربين، الذي تسبب في خسارة 60 مقعدا من مقاعد الحزب البرلمانية في انتخابات عام 2019، وساهمت سياساته المتشددة في تفرد اليمين بالسلطة وإبعاد اليسار عنها.
قيادة حزب العمال الحالية تتبع سياسات معتدلة، وقد ازداد التأييد الشعبي لها، بفضل تخبط حزب المحافظين خلال السنوات الثماني المنصرمة، لكنها مع ذلك واجهت مصاعب سياسية بسبب موقفها من الحرب في غزة، الذي أثار العرب والمسلمين واليساريين عموما، الذين كانوا يتوقعون من حزب العمال تحديدا موقفا مساندا للفلسطينيين.
غير أن كير ستارمر، الذي يقترب من السلطة، غير مستعد أن يخاطر بفوزه المحتمل في الانتخابات، بأن يشذ عن مواقف باقي الدول الغربية في هذه المسألة، رغم أنه غيَّر موقفه كثيرا، وقال إن على نتنياهو أن يعلم بأن مصير الشعب الفلسطيني لا تقرره دولة جارة، وإنما يقرره بنفسه.
كير ستارمر يعلم أن حزب العمال هو الملاذ الوحيد للمهاجرين والفقراء واليساريين واللبراليين والمتذمرين من المحافظين، وأن هؤلاء لن يصوتوا لخصومه تحت أي ظرف، حتى وإن اختلفوا معه في قضية محددة، وأن موقفه المتعلق بقضية من قضايا السياسة الخارجية، لا يؤثر على وضعه الانتخابي، الذي تحدده سياساته الاقتصادية الداخلية حصرا.
حزب العمال لا يمتلك حلولا سحرية للمشاكل الاقتصادية والسياسية البريطانية، التي تحتاج إلى فترة طويلة من التعاطي الواقعي معها، لكنه سيسعى لخدمة الطبقة العاملة، دون إثارة الطبقة الوسطى، التي تسيِّر الاقتصاد، وسوف يضطر لرفع الضرائب على أرباح الشركات الكبرى والأثرياء عموما، من أجل توفير المال اللازم لتحسين الخدمات، خصوصا خدمة الصحة الوطنية، التي تدهورت كثيرا في ظل حكومات المحافظين.
خسارة المحافظين في الانتخابات الفرعية الأخيرة تشكل إنذارا خطيرا لهم، سوف يدفعهم على الأرجح إلى تأجيل إجراء الانتخابات العامة حتى آخر موعد ممكن، وهو يناير من العام المقبل، بهدف البقاء في السلطة لفترة أطول، وانتظار تحسن الاقتصاد من أجل أن يحققوا إنجازا قبل الانتخابات يمكن أن يحد من خسارتهم المتوقعة.