بغداد – اصيل نصير
رغم القوانين التي وضعتها الدولة لحماية الطفولة وضمان حقوق الفتيات في التعليم والنمو الآمن، ما زال تزويج القاصرات ظاهرةً مقلقةً في المجتمع العراقي، حيث تكشف إحصاءات حديثة أن 57.9% من النساء تزوجن قبل بلوغ السن القانوني، في مؤشر خطير على استمرار انتهاك أحد أبرز حقوق الطفولة.
قانون يجرّم… ومجتمع يبرر
ينص قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959 المعدل على أن السن القانوني للزواج هو 18 عامًا، ويمنع زواج من هم دون ذلك إلا بموافقة المحكمة وتوافر شروط محددة.
ورغم هذا النص الواضح، فإن محاكم الأحوال الشخصية تسجّل سنويًا آلاف عقود الزواج التي تخص فتيات لم يبلغن السن القانونية، إما عبر عقود دينية خارج المحكمة أو من خلال التحايل القانوني بطلب إذن القاضي بعد وقوع الزواج فعليًا.
تقول القاضية (هـ.ع) من محكمة الأحوال الشخصية ببغداد:
“نتلقى أسبوعيًا عشرات الطلبات لتصديق عقود زواج لفتيات دون 18 عامًا، وغالبًا ما يكون الزواج قد تم بالفعل، ما يجعل القاضي أمام أمر واقع. وفي بعض الحالات، يكون الأهل هم من يضغط لتصديق العقد خوفًا من الملاحقة القانونية.”
بين الفقر والعادات… ضياع طفولة
في قرية صغيرة بمحافظة ميسان، جلست (سارة – 15 عامًا) تحكي قصتها بنبرة يختلط فيها الخجل بالحزن:
“تركْت المدرسة في الصف السادس لأن أبي قال إن الزواج يستر البنت… تزوجت رجلًا عمره 32 سنة. بعد سنة، رجعت إلى بيت أهلي بعد ما طلقني.”
حكاية سارة ليست استثناءً، فبحسب باحثين اجتماعيين، الفقر والعادات العشائرية ما زالت العوامل الأبرز التي تدفع الأهالي إلى تزويج بناتهم مبكرًا، إذ يُنظر إلى الزواج كـ”ضمانة اجتماعية” أو “حل اقتصادي” في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة.
انعكاسات نفسية وصحية خطيرة
يقول الطبيب النفسي د. أحمد الربيعي إن الزواج المبكر لا يؤثر على الفتاة جسديًا فحسب، بل يترك آثارًا نفسية عميقة:
“الفتاة القاصرة غير مهيأة لتحمل مسؤوليات الحياة الزوجية أو الأمومة، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية، اكتئاب، وصعوبات في التكيف. إضافة إلى أن الحمل المبكر يعرض حياتها وحياة الجنين للخطر.”
كما تشير دراسات إلى أن الأطفال الذين يولدون لأمهات قاصرات يكونون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض وسوء التغذية، فضلًا عن ارتفاع معدلات الطلاق والعنف الأسري بين هذه الفئة من الزيجات.
محاولات الحد من الظاهرة
منظمات المجتمع المدني تطلق حملات توعية متكررة في المدارس والمناطق الريفية، إلا أن التحديات ما تزال كبيرة. تقول الناشطة النسوية رنا الطائي من منظمة “أمل للمرأة”:
“القانون وحده لا يكفي، نحن بحاجة إلى تغيير ثقافة المجتمع. يجب أن تُدرك العائلة أن الزواج المبكر ليس حماية، بل إلغاء لمستقبل الفتاة.”
وتطالب الطائي بتشديد العقوبات على من يبرم عقود زواج خارج المحكمة، وتفعيل برامج الدعم الاقتصادي للعائلات الفقيرة التي تلجأ إلى تزويج بناتها بدافع الحاجة.
خاتمة: بين النصوص والواقع
تبقى ظاهرة تزويج القاصرات جرحًا مفتوحًا في جسد المجتمع العراقي، حيث يتصادم النص القانوني مع الأعراف والتقاليد، وتتراجع الطفولة أمام منطق “الضرورة” و”الستر”.
ومع أن الأرقام الرسمية تعكس جزءًا من الحقيقة، إلا أن النسبة الفعلية قد تكون أعلى، ما لم تتضافر جهود الدولة والمجتمع لإنقاذ آلاف الفتيات من مستقبل يُسلب منهن قبل أن يبدأ.
مجلة صوتها تصدر عن منتدى الاعلاميات العراقيات