

الدكتور ليث شبر
قد يبدو العنوان طريفًا، لكنه في الحقيقة يحمل خلاصة مريرة لتجربة العراق خلال العقود الأخيرة. فالبركر – الوجبة الأمريكية الشهيرة – رمز للسياسة الأمريكية التي دخلت العراق كما تدخل وجبة سريعة إلى فرنٍ لا يعرف الطهي البطيء، فيما الساهون – الحلوى الإيرانية الناعمة – تمثل النفوذ الإيراني الذي تسلّل إلى البلاد بمذاق ديني ناعم وسكّر أيديولوجي مُخدِّر. أما “القيمة”، فهي ليست مجرد وجبة عراقية نجفية تُطهى بصبر على نار هادئة، بل هي استعارة عن قيمة العراق نفسه: سيادته، هويته، وقراره الوطني.
منذ عام 2003، دخلت الولايات المتحدة العراق مدججة بوعد “التحرير”، لكنها لم تكن تفكر في بناء دولة، بل في إعادة تشكيل المنطقة على طريقتها. نصّبت طبقة سياسية على مقاس مصالحها، وكرّست نظامًا سياسيًا طائفيًا هشًا، وشجّعت ثقافة الصفقات بدل ثقافة المؤسسات. ولمّا شعرت أن الفوضى أصبحت دائمة بما يكفي لحماية مصالحها، انسحبت إلى الخلف، وتركت وراءها أدوات تُمسك بها بيد ناعمة، وتخنق بها كل مشروع وطني نزيه.
وفي المقابل، تسلّلت إيران من باب المذهب والعاطفة، وقدّمت نفسها كحامٍ روحي وامتداد تاريخي. لكنها سرعان ما كشفت عن مشروع لا يقل خطورة عن المشروع الأمريكي. زرعت فصائل مسلحة، واخترقت مؤسسات الدولة، ودعمت سياسيين لا مشروع لهم سوى خدمة مصالحها. كانت الساهون، بطعمها الحلو، تُسكّن جوع العراقيين للكرامة، لكنها لا تمنحهم التغذية اللازمة لبناء دولة حقيقية. بل تحوّلت إلى أداة لتخديرهم، ولتسويغ النفوذ والتبعية باسم “القربى” و”المشتركات”.
وهكذا، بين البركر الذي يُشبِع لحظة ويُمرِض بعدها، والساهون الذي يُغري ثم يُؤجج، ضاعت القيمة. ضاعت القدرة على التفكير الهادئ، واتخاذ القرار الرصين، وبناء نظام يعكس مصالح الشعب لا مطامع الآخرين.
الأدهى من ذلك أن أمريكا وإيران، رغم التناقض الظاهري بينهما، تشاركتا في هدف واحد: إبقاء العراق ضعيفًا، مشلول الإرادة، عاجزًا عن النهوض. فكلتاهما منعت ظهور قيادة وطنية مستقلة، وكلتاهما عملت – بطرق مختلفة – على حشر الوطنيين في الزوايا الضيقة، وتشويه أصواتهم، وتحويلهم إلى غرباء في وطنهم.
وإذا دققنا، نجد أن أمريكا تفرض وصايتها باسم “الديمقراطية”، وإيران تفرضها باسم “الولاية”، لكن النتيجة واحدة: مصادرة القرار العراقي، وتقييد حركته، وتفريغ مفهوم الوطنية من محتواه.
لكن ما غاب عن هؤلاء أن العراقيين، الذين حافظوا على وصفتهم الأصيلة في “القيمة” رغم كل موجات التغريب، لن يفرطوا بقيمتهم الحقيقية. وكما لم يستبدلوا طبختهم العريقة بوجبات سريعة أو حلوى مستوردة، فإنهم – عاجلًا أم آجلًا – سيستعيدون نكهة دولتهم، ويُعيدون طبخ مستقبلهم على نار عراقية خالصة، وبأيدٍ وعقول تعرف كيف تطبخ القيمة العراقية ، لا البركر الأمريكي ولا الساهون الإيراني .