مقهى الكرادة – حين يصبح الماضي ملجأً

رشا مهند
أجلس الآن في أحد مقاهي الكرادة. المكان يعجّ بكبار السن، رجال ونساء، وجوههم تروي الزمن. يسلّمون على بعضهم البعض وكأنهم جميعًا يعرفون بعضهم منذ الطفولة. لا وجود للغرابة هنا، كلّ من يجلس في هذا المكان يبدو أنه يعرف الآخر، أو على الأقل يشعر به.

الكثير منهم كانوا، كتّاب، فنانين، مثقفين ، وسياسيين قدامى. بعض الرجال ما زالوا يلبسون دبوسًا أحمر صغيرًا – رمزًا لانتمائهم السياسي في زمن مضى، رمزًا للشيوعية أو لأفكار قديمة لم تمت بعد في قلوبهم. هذه الرموز، وهذا المكان، تمنحهم شعورًا نادرًا بالأمان، وكأن الزمان لم يغدر بهم بعد.
لكن هل تكفي مساحة صغيرة من الأمان لكل كبار السن في العراق؟ هل هناك “مقهى كرادة” آخر في مدن أخرى؟
أم أن الغالبية يعيشون في عزلة، دون طاولة تجمعهم، ورفيق يصغي لقصصهم؟

حين ندخل منتصف العمر، نشعر وكأننا نقف بين زمنين: قدم في الماضي، وأخرى تتلمّس الطريق نحو المستقبل. نتأرجح بين الذكريات والتوقعات، بين من كنا ومن نحاول أن نكون. أما كبار السن، فقد اختاروا ماضيهم مأوى. ذكرياتهم هي مرآتهم، لأنها أكثر صدقًا من تلك التي تعكسها المرايا الزجاجية، حيث التجاعيد شاهدة، والعيون فقدت بريقها. لذا، ينظرون إلى من حولهم… إلى وجوهٍ تشبههم، إلى عيون مرّت بما مرّت به أعينهم، كأنهم يقتبسون دفئًا من بعضهم البعض كي لا يواجهوا الحاضر وحدهم.

كبار السن كانوا يومًا ما شبابًا يركضون نحو المستقبل، يلاحقون أحلامهم وكأن الزمن ملكهم، غير مكترثين كثيرًا لما يتركون خلفهم. لكن الزمن، كعادته، أعادهم إلى نقطة البداية… إلى الحنين. ففي مطلع الحياة، نشتاق إلى الغد، وفي نهايتها، نشتاق إلى الأمس.

وهذا هو سيناريو الحياة الذي يجعلنا نتوقف قليلًا ونتأمل: لا تقاطعوا كبار السن حين يروون ذكرياتهم، ولا تقولوا لهم: “لقد سمعنا هذه القصة من قبل.” ففي كل مرة يروون فيها الماضي، هم في الواقع يعيدون إحياء أنفسهم. لا يبحثون عن إعجابكم، بل عن صوتهم، عن شعورهم بأنهم ما زالوا حاضرون.

وقد أثبتت الأبحاث أن كبار السن يتذكرون اللحظات الجميلة أكثر من المؤلمة، يعيدون تشكيل الماضي ليصبح أكثر دفئًا، أكثر إنسانية، وأكثر قبولًا. فامنحوهم فرصة الحديث، واستمعوا إليهم… فقد يكون في ذكرياتهم دروس لم نعِشها بعد.

أما أنا، فأجلس هنا وحدي.
قدم في الماضي، وأخرى تحاول المضي قدمًا.
الكرسي أمامي فارغ، وفنجان قهوة وحيد أمامي.
أتساءل: ما الخطوة التالية؟
هل أجمع ذكريات جميلة أخرى تكون رفيقتي إن بقيت وحيدة؟
أم أبحث عن أصدقاء يسمعونني حين أروي لهم الحكايات التي أعيشها الآن؟
هل أملأ قلبي بأشخاص… أم بلحظات؟
أم أن أجمل ما في الحياة هو أن نملك كليهما: لحظات خالدة، وأناسًا حقيقيين نرويها لهم؟

أرفع نظري إلى النادل،
وأتساءل: هل أطلب كوبًا آخر؟
أم أنظر حولي بحثًا عن وجهٍ قريب قد يصبح رفيقًا لشيخوختي؟
أم أن الوقت قد حان لأطلب الفاتورة… وأمضي،
لأصنع ذكرى جديدة، ربما تكون يومًا ما
إحدى تلك التي ستؤنسني، حين أعود لأجلس وحدي… في مقهى آخر.

شاهد أيضاً

البصل المهروس

هادي جلو مرعي يمكن بيسر أن تقوم سيدة بتحضير وجبة طعام فاخرة، وليس بالضرورة أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!