الشعوب السعيدة لا تاريخ لها

لطفية الدليمي

“الشعوب السعيدة لا تاريخ لها” هذه مقولة تُنسب إلى مونتسيكيو. أن يكون لشعب ما تاريخ طويل وممتد في الزمن، فذلك يعني في أحيان كثيرة أنغماس ذلك الشعب في توهمات كبرى توقفه عند مرحلة تقديس جوانب وشخصيات من ذلك التاريخ، ويتعذر الخلاص من سطوتها، وبالتالي يحرم المساس بها. وتثقل الشعوب المستغرقة في عبادة ماضيها تراثٌ من النزاعات القديمة التي قامت بين الدول والإمبراطوريات المتهاوية، فتستعيد عبر استحضار ذكراها شهوات الثأر البدائية وتؤسس عليها مواقف راهنة بانعدام وعي منقطع النظير.

تتعزز لدى الشعوب المفتونة بالتاريخ نزعة الزهو بالأمجاد السابقة، التي يزدهر معها الشقاء البشري لعجزها عن تحقيق ما يماثل تلك الأمجاد. وينتج عن هذا العجز ترسيخ الجمود الثقافي والتحجر الفكري لأغلبية غائبة عن الوعي، وسادرة في وهمها عن نفسها، ومنصرفة إلى تبني طرائق عيش وتدابير حكم وُجدت لأزمنة غير أزمنتها.

القبائل المترحلة التي لا ترتبط بغير اللحظة والمكان الذي تجد نفسها فيه، تحيا سعادتها بخفة وامتنان وبساطة. تتعرف بثقة إلى واقعها الذي تتعايش معه وتتقبله، لكن سعادتها سعادة هشة وزائلة، تفتقد الركيزة التي تستند إليها الجماعات المستقرة. تلك الركيزة الثقافية المستخلصة من التراكم التاريخي للحضارات ونتاج المخيلة الحالية من إبداع وفنون وتنظيمات مجتمعية.

إن شقاء الشعوب المتأرخنة -إن جاز لنا التعبير- هو ذاته شقاء الكائنات المدجنة المسروقة من زمنها. فالتاريخ عبء الأمم المهزومة التي تجهل التعامل مع المعطى الثقافي الحي لحاضرها والتأسيس لمستقبلها. وتعوضه بالتقديس الدوغمائي المفرط لكثير من جوانب التاريخ المجردة ورموزه البشرية.

تعيش الجماعات المسحورة بالتاريخ في استعارات متواصلة من الماضي، فهي لا تحيا حياتها، بل تعيش بأسلوب الأسلاف في زمن مختلف. فتقع في تناقضات مستمرة مع واقعها وما يحيط بها من مستجدات ومتغيرات، مما يدفع ببعض مكوناتها إلى مناهضة كل مخالف لأوهامها، ومواجهة ذلك بأساليب عنيفة متعددة تعبر بها عن عجزها عن التلاؤم مع عصرها وأهل هذا العصر.

الشعوب السعيدة تضع التاريخ في حسبانها بتبني خلاصاته وقيمه الثقافية، لكنها تواصل صيرورتها ولا تتشبه بكائنات الماضي، بل تكون ذاتها في اللحظة الحاضرة. مستفيدة من وهم الفردوس التاريخي لتشكل منه حلم المستقبل دون أن تجعله قيدًا أو عائقًا لتعاطيها مع العصر.

بعض هذه الشعوب الشقية بموروثها التاريخي الضخم تتجاهل المستجدات العلمية والتقنية والمعطيات الثقافية النيرة والتراكم الثقافي لخبرات أفرادها، الذي يقع غالبًا خارج منظومات التدوين التاريخي الرسمي الذي يسجله الحكام والقوى المهيمنة. فنجدها تتبنى الحلقات التي تروج للعظمة السياسية والغزوات والانتصارات الحربية لتاريخ دونه مؤرخو الخلفاء والملوك والحكام الطغاة، لتقع في شقاء التفريط بالحياة المتاحة لها.

وتدرك الشعوب السعيدة أن التاريخ ما هو إلا وقائع يكتنفها الغموض وكثير من التهويل، وتُقدم من وجهة نظر واحدة. وأن أبطاله يرقدون في سكون المقابر والمتاحف. وتعرف مقابل ذلك أن الفن يشتهي الحياة -كما قال نيتشة- لأنه الحراك الإبداعي للمخيلة، وهو التعبير الأسمى عن نزوع البشر للتقدم في لعبة الحياة وكشوفاتها الممتعة بقدرته على اختزال الزمن ليبقى ماثلًا فيه. الشعوب الأكثر ميلًا للفرح والمباهج هي التي تتعاطى مع الفن باعتباره مدخلًا للمستقبل وأسلوبًا لعيش الحياة وفق تجليات جمالية. أما الشعوب الشقية المسجونة في تاريخها، فهي تمارس إزاء الفن موقف التحريم أو الإهمال ولا تعتد بالفنون التعبيرية بسبب عبادتها الصنمية للماضي الذي يشكل التاريخ أحد مكوناته الأساسية.

شاهد أيضاً

رؤية الواقع في السياسة الإعلاميَّة

د. محمد وليد صالح – كاتب عراقي يسعى الإعلام لتحقيق أهداف عدة، منها التعبئة السياسية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!