يمكن قياس حركة ثقافية ما في بلد معيّن، بملاحظة المكتبة، وبانتشار باعة الكتب، وبتعدّد طُرق عرض الكتاب وتسويقه، وبمدى نسبة البيع والقراءة وإقبال القرّاء.
هذه العلامات الظاهرية، بها يُستدلّ على وجود من يَقرأ، ووجود من يتاجر بالكُتب أيضاً. انتشار المكتبات يعني أن هناك من يقتني الكتب، وبالنسبة للبائع، فإن بضاعته الثقافية لا تصدأ، وإذا حُسبت من جانب الربح المادي، فإن اتساع المكتبات وازديادها يعني عدم خلوّها من ربحٍ ما، قلّ أم كثر.
في مراجعة ظاهرة “الشوارع الثقافية” في بغداد، ومحاولة فهم انتشارها في ضوء البيئة العراقية حصراً، وعلى الرغم من وجود هذه الظاهرة في بلدان عربية عدّة، لكن العراق له الأسبقية في هذا على مرّ السنين، إذ تمّ استنساخ الفكرة في محافظاتٍ أخرى، لكنها لم تنافس الشوارع الثقافية الشهيرة.
بوصلة الكُتّاب والقرّاء والفنانين
تُعرف بغداد بـ “شارع المتنبي”، العلامة الثقافية الأشهر على المستوى المحلي والعربي. شارع بطولِ كيلو مترٍ واحد، يُطلّ على نهر دجلة.
يُجانب الشارع يميناً، ديوان الحكومة القديم الذي يعود إلى فترة الحكم العثماني، وشمالاً سوق السراي التراثي، الذي يُعدّ المصدر الأوّل لبيع مستلزمات الكتابة ومعدّات الرسم، أما على ضفة النهر، فتمثال المتنبي الذي يقف رافعاً يده وكأنه يردّد الأبيات التي كُتبت على قاعدته:
“أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدبي.. وأُسْمِعَت كلماتي مَنْ بِهِ صَمَمُ”.
عام 1932، عندما كان العراق مملكة ويحكمه فيصل الأول، تمّ إطلاق اسم “المتنبي” على الشارع، غير أن تاريخ تأسيسه يعود إلى فترةٍ أبعد، وتحديداً إلى عهد الخليفة المستعصم بالله، أواخر العصر العباسي الثالث، ليكون امتداداً لسوق الورّاقين، المعروف حالياً “بسوق السراي”.
لم تمرّ فترة انهيار بغداد إبان سقوطها على يد هولاكو بسلام، إذ تعرّض كما تعرّضت بغداد إلى الدمار والتخريب، لكن الحياة عادت إلى مرافق هذا الشارع أواسط العهد العثماني بسبب بناء “القشلة”، وهي مركز إدارة الحكومة، إلى جانب وجود العديد من المدارس والدوائر الأخرى، ما جعل الشارع يستعيد تاريخه الثقافي تدريجياً.
لم تَسلم مكتبات المتنبي من الانهيار الأمني الذي شهدته بغداد عقب الغزو الأميركي. عام 2007 انفجرت سيارة مفخّخة أدّت إلى تدمير مكتبات الشارع، ومقتل الكثير من الباعة والقُرّاء والكُتّاب، غير أن اليوم التالي لهذا الحدث كان مختلفاً، عاد الشارع للعمل مرّة أخرى على أنقاض ما تبقّى، وبقي سوق الكتب في نشاطٍ مُستمر، ولم تعطّله أي أحداثٍ أو ظروف، أمنية أو اقتصادية.
عام 2022، شهد الشارع حملة إعمار هي الأولى من نوعها في تاريخه، فأغلب مكتباته كانت على الطراز المعماري القديم المتهالك الذي لم يتم تجديده أبداً، فضلاً عن تصرّفات بعض أصحاب العِمارات بطرقٍ ترميمية لا تمتّ للفن بصلة، لذلك أُعيدَ ترميمه برعاية حكومية جاءت متأخّرة، لكنها انتشلته من فوضى كانت توشك أن تتوسّع.
بقي الشارع عبرَ تاريخه، بوصلة الكُتّاب والقرّاء والفنانين وعلامتهم الثقافية الأبرز، وعادة ما يقترن دخول الفرد إلى المتنبي بصفة “المثقف”، وعلى الرغم من تأويلات هذه الصفة وأبعادها عند العامّة، لكن شهرة الشارعِ وذيوعِ صيته هي ما تجعل تلك الصفة ملاصقة لمن يرتاده.
سوق الحويش: دهاليز المخطوطات والنوادر
تعود تسمية “الحويش” إلى تصغير كلمة “حوش”، وتعني باحة البيت. أما الحويش، فهو سوق يقع في قلب مدينة النجف، ويعود تاريخه الثقافي إلى نحو 700 سنة، وهو ما يعدّ إرثاً ثقافياً وهوية للمدينة، التي تشتهر بكونها أحد أهم المراكز الإسلامية.
يجاور السوق على بعد أمتار، مرقد الإمام علي، إلى جانب العديد من المساجد التراثية، وهو ما جعل من السوق محطّ إقبال كبيرٍ لطلبة العلوم الدينية والتاريخية، وشتى فروع المعرفة.
لا يشبه الحويش أياً من أسواق الكتب الأخرى في العراق من الناحية المعمارية، فهو عبارة عن دهاليز متشابكة ومُلتمّة على بعضها، تبدو كما لو أنها متاهة.
لا تزال المكتبات في الحويش على طابعها القديم، وتتكدّس فيها مئات الكتب على قارعة الطريق الذي يتّسع ويضيق، وتعود طبيعة السوق هذه إلى طبيعة العمارة النجفية عموماً، التي امتازت بتلاصق البيوت وتداخلها، لتحيط قدرَ الإمكان بالمرقد المجاور.
يمتازُ السوق بأنَه أحد مصادر الكتب والنوادر والمخطوطات التاريخية المفقودة من المكتبات، وهو يمثّل “منجماً” لكل من يبحث عن عنوان ولا يجده في مكانٍ آخر، إلى جانب وفرة العناوين وتنوّعها، حيث لا رقابة ولا منع.
في نيسان عام 2023، كشفت الجهة المشرفة على مرقد الإمام علي، عن قرب إزالة السوق التراثي بهدف توسعته، ما أثار سخط المثقفين والناشطين في العراق، الذي اعتبروه مسّاً بالهوية الثقافية للمدينة.
و أشار آخرون إلى إمكانية التوسعة دون محو ذاكرةٍ عمرها 700 عام. لايزال السوق على حاله بعد أن تم تأجيل مشروع الإزالة منذ سنة، ومن المزمع أن ينطلق في الفترة المقبلة.
شارع النجيفي: الكتب بجوار أنقاض المدينة
إذا كانت مدينة الموصل (شمالاً ضمن محافظة نينوى)، تُعرف بمآذِنها وجوامعها التاريخية وآثار الحضارات القديمة فيها، فهي تُعرف كذلك بشارعها الثقافي الأشهر “النجيفي”، الذي يعدّ الأيقونة الثقافية الأبرز للمدينة ومثقفيها.
في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، غلبَ على الشارع الطابع الثقافي، نتيجة افتتاح عدد من المكتبات التي تنوّعت اختصاصاتها، ما بين الكتب القديمة والحديثة والمجلات والجرائد اليومية، إلى جانب القرطاسية ومستلزمات التدريس والرسم.
ترجع تسمية الشارع إلى عائلة “النجيفي” التي سكنت مدينة الموصل، وكانت تملك بيتاً كبيراً على حدوده، جرى عام 1959، هدم جزءٍ كبيرٍ منه وتحويله إلى عمارات تجارية، حيث توسّعت المكتبات خلال تلك الفترة واشتهرت مجموعة منها: مكتبة الجزائر، النبراس العراقية، الشباب، الخيام، العربية، المعارف، الإمام، الغانم، المكتبة العصرية، وغيرها.
غيرَ أن النكبة التي تعرّضت لها الثقافة الموصلية، أثناء اجتياح التنظيم الإرهابي “داعش” عام 2014، لم يكن الشارع بمنأى عنها، إذ طاول الخراب التام كافة المكتبات الموجودة ومحتوياتها، وبقي على هذا الحال حتى تحرير المدينة بالكامل.
عودة المدينة إلى أهلها بعد سيطرة الحكومة، دفع ببعض أصحاب المكتبات إلى ترميم ما يمكن ترميمه من مكتبات وإعادة افتتاحها، أما أصحاب المكتبات الذين لم يستطيعوا ذلك، أو المكتبات التي استحدثت ولم تجد لها مكاناً، فكانت “البسطيات” هي الحل، حيث توضع الكتب على قارعة الطريق أمام المارّة.
عودة مزاولة النشاط الثقافي، أثمرت عن بزوغ تجمّعاتٍ ثقافية في الشارع، بجوار أنقاض المدينة، لعقد حلقاتٍ فكرية، أو لمناقشةِ أو كتابٍ وإقامة عروضٍ فنية ومسرحية.
تنتظر الموصل انطلاق حملة إعادة إعمار الشارع بتصميمٍ معماري يناسب بيئة المدينة وتراثها، وأعلن المعنيون منذ أسابيعَ عن فوز ثلاثة تصاميم تخصّ الشارع.
شارع الفراهيدي: أكشاك تراثية للكتب
نتج عن جهود مجموعة من أصحاب المكتبات والفنانين في البصرة، افتتاح شارع ثقافي عام 2025، يحتضن العروض الفنية والمسرحية، والأهم أنه سوق للكتب وملتقى للكتاب، واختير اسم “الفراهيدي” للشارع، تكريماً للّغوي البصري المعروف “الخليل بن أحمد الفراهيدي”.
بقي النشاط الثقافي في هذا الشارع على هامش الطريق، إذ يتم عرض الكتب بطريقة غير مناسبة، فالمكان ضيّق وغير مؤهّل، ومع ذلك يستمرّ النشاط الثقافي في الشارع كل نهار جمعة.
في أواخر عام 2022، تم استحداث أكشاك خشبية لأصحاب المكتبات، على شكل أكواخ، بما فيها من زخارف وشنانيل تعكس تراث البصرة وطابعها التاريخي، لعرض الكتب من خلالها وحفظها، بدل نشرها على الرصيف.
كما تمّت تهيئة ساحة جانبية خصّصت للجلسات الأدبية والمعارض الفنية والمسرحية. مطلع العام الحالي، تم الإعلان عن مشروع توسعة الشارع بشكل طولي، وزيادة عدد الأكشاك الخشبية، كي تستوعب أكبر عددٍ من المكتبات والأنشطة.
أفول ثقافي وقلّة دعم
يعود استمرار نشاط شوارع الثقافة الرئيسية في العراق، نتيجة شهرتها وتأريخها، ومن ثم تمركزها في مدنٍ ذاتَ ثقلٍ حضاري وعلمي، إضافة إلى رواج سوق الكتب فيها تبعًا للخلفية التي تمتاز بها.
مقابل ذلك، برزت في سنوات سابقة مجموعة من الشوارع الثقافية التي زاولت نشاطها لفترة، لكنها أقفلت بعد ذلك، مثل شارع الرميثة الثقافي (محافظة المثنى)، “الرصيف المعرفي” (محافظة ميسان)، جنوباً “شارع دجلة” في محافظ واسط (وسط العراق)، “شارع كركوك” (محافظة كركوك) شمالاً.
تفتقر هذه المشروعات إلى الدعم الحكومي الذي لم تحصل عليه، لذلك تشهد بعد فترة من نشاطها الملحوظ، غياباً وأفولاً.