عالم الست وهيبة 2

  سارة سلام 

برزت فترة منتصف التسعينات ببعض الاعمال الدرامية الراسخة بالذاكرة العراقية، كونها كانت اعمال قليلة لنجوم كبار وقد مثلت شيئا من الواقع، رغم محاذير السلطة وتدخلها المباشر حتى بأداء الممثلين وليس تحكما في النص والسيناريو والاخراج فحسب، اذكر عقب الاحتلال مباشرة كانت اذاعة صوت العراق جديرة باللقاءات مع الفنانين والمبدعين المغتربين وسلطت الضوء على كثير من الاضطهادات في تلك الحقبة التي شهدت اضطهادات لفئات عديدة من المجتمع ليس على المستوى الفن فحسب، فكان المخرج أسامة سميسم ذكر تفصيلا كيف كان عدي صدام حسين متدخلا باداء المطربين والممثلين ومن يتصفح تاريخ تلك الحقبة يجد فيها الرياضيين والملحنين وغيرهم مما يروون ذكرياتهم بين غصة واخرى.

وبالعودة الى الاعمال الدرامية التي انتجت في عام 1998 وتسلط الضوء على شيء من شواهد مجتمع التسعينات المفعم بمأسي الحصار وتبعاته المجتمعية وانحدار النظم والمعايير القيمية، فمن المعروف ان تجويع البطون ما هو الا تجويع للقيم، وهذا ما حصل ويحصل الان رغم الثراء وتفاوت الطبقات ما بين فترة الحصار وما بعده اثرت كثيرا على منظومة القيم التي عبرت عنها مسلسل “الاماني الضالة” التي انتجت قبل تسع سنوات (1989) من انتاج عالم الست وهيبة وقد ابدع الكاتب صباح عطوان في ترجمة صراعات الحقبتين، حتى  فلسفة الصراع بين السواد والبياض والخير والشر كان رائدا في اظهارها رغم تحديات حقبة ما بعد الحرب العراقية الايرانية وتأثيراتها على الخصوم في “بيت الجرخجي” واختلاف القيم في البيت الواحد على الارث، في حين ترجم حقبة التسيعينات وتأثير القحط على “القابلة الجشعة” والمنتفع من ضرر زوجته جراء ولادة خاطئة، وكانت الست وهيبة الفنانة القديرة “فوزية عارف” تمثل المُثل العليا في منظومة القيم شاهدا على كل التيارات الفكرية وتضارب الرؤى وصراعات المرحلة، فكانت شخصية “مهيدي” التي مثلت ترندا انذاك محط الاضواء لشاب عانى من تسلط زوج الأم والحياة المعيشية الصعبة وغياب التعليم والعمل مع جملة من المتعاطين في بؤرة للعصابات اضطرت بمهيدي ان ينسلخ من تربيته وقيمه وينخرط في سلك الاجرام باحثا عن فرصة للانتقام من كل اسقاطات الحياة الضنكة وأولها ديكتاتور حياته “زوج الام”، وبعد هذه الحقبة من الحصار الذي جعل من “مهيدي” نموذجا للشاب العراقي المبحط من واقعه سالكا مسلك العدوان والانتفاض على محيطه، وكان مأمولا ان تتغير حياة مهيدي ومثيله الى الافضل بعد سنوات التغيير.

بعد ستة وعشرين عاما عاد عالم الست وهيبة بجزئه الثاني، ورغم عدم معرفتنا بالسيناريو القادم به هذا الجزء، الا ان (مهيدي) تكررت نسخته اضعاف مضاعفة، في بلد عانى من صدمة الديمقراطية التي لم يتخطاها ليحظى بالعيش وفق مفهوم الحرية المطلوبة، فما كان منه الا يعيش في تجاذبات السياسة وتعدد القوى ومصادر النفوذ وتوغل السلاح وتضاعف كميات الممنوعات ومجتمعات التعاطي، ان لم يكن بالمخدرات، كان ذلك بالمخدرات الرقمية التي اضحت اشد خطرا في ادارة التيارات الفكرية وتأرجح المنظومة القيمية بعالم التيك توك المليء بما لا يحمد عقباه  وان كان هناك رواد للمعلمين على مختلف الفنون، لكننا نشبه “مهيدي” بشخصيته المحبطة المتخبطة، لا نأخذ من الحياة الا سوادها.

شاهد أيضاً

ازمة لبنان تعبر خطوط الإنذار

العاصمة بيروت تتعرض للقصف الجوي من العدوان الإسرائيلي ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى َوتهجير …

error: Content is protected !!