محمد علي جواد تقي
اعتقد البعض ان المقولة المنسوبة الى ماري انطوانيت، ملكة فرنسا: “إن لم يكن للجياع خبز فليأكلوا الكعكة”، تمثل نموذجاً منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم والى أجل غير معلوم، لجهل الحاكم بأحوال المحكوم فقط، بينما نجد اليوم في العراق، إن لتلك المقولة مصداقية في وهذا ما رشح من تصريحات لرموز هذ التنظيمات بين فترة واخرى، فمن؛ “لا وجود لفقير في العراق”! الى “لا حاجة لأن ينفق الناس أموالهم على شراء السكاكر لاطفالهم”، الى ذاك الذي يوصي العراقيين بترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية، بعدم تشغيل سخانات الماء في الصيف!! ولا أدّل على وجود هذه القطيعة والتباعد، من ظهور هذه التنظيمات في الاوساط الاجتماعية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية او المحلية، في استعراض ممجوج مع سبق الاصرار.
هذا المآل الخطير تسبب في تصدع التجربة الديمقراطية في العراق الى درجة التهديد بالفشل والانهيار مع قرب الدورة الجديدة لانتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات، حيث بلغت كراهية الغالبية العظمى من الجماهير للنواب والساسة بشكل عام، الى مستويات انفجارية بسبب تراكم ملفات الفساد، بل واستمرار حالات النهب المنظم بأرقام جنونية، ثم صعوبة مكافحة هذه الظاهرة الى حد الاستحالة.
العلماء في شأن الاحزاب وعلاقتها بالجماهير بحثوا الموضوع وتوصلوا الى عدة اسباب تؤدي الى قطيعة بين الاثنين، بل وتحول هذه الاحزاب، من احزاب جماهيرية الى احزاب سلطة تستحيل وبالاً على الجماهير وتسنسخ افعال الانظمة الديكتاتورية التي عارضتها وأسهمت في اسقاطها:
السبب الأول: الولادة خارج رحم الجماهير
أشد ما افتقرت اليه تجربة الاحزاب السياسية في العراق طيلة تاريخها المعاصر، وما خلا العهد الملكي، نشأتها وولادتها، فقد ولدت جميع الاحزاب السياسية في العراق في العهود الجمهورية الماضية من نطفة عقدت خارج العراق وبعيداً عن طبيعة الشعب العراقي وهويته وانتمائه، بمعنى أن أجندات خاصة كان لها الأولوية على بناء جسور العلاقة مع الجماهير، ربما منها سياسية، منها فكرية وايديولوجية، وهذا ما يؤشر اليه الكاتب الفرنسي والاستاذ في العلوم السياسية، موريس دوفرجيه، في كتابه؛ الاحزاب السياسية، “فالاحزاب ذات النشأة الخارجية تظهر عدم اكتراث أقوى بالجماهير مما تظهره تلك التي ترعرعت في السرايا ونشأت في ظله”، ويشير الى الفكر الشمولي ودوره في مباركة الولادات الحزبية في الخارج، في مثاله؛ الاحزاب الاشتراكية، حيث يبين أنه “حتى عام 1900 كانت غالبية الاحزاب السياسية ذات نشأة برلمانية، ما خلا بعض الاستثناءات، ولانجد إلا القليل من التدخل الخارجي قبل نشوء الاحزاب الاشتراكية التي قلبت القاعدة، فاصبحت النشأة الخارجية هي القاعدة، فيما ارتدت النشأة البرلمانية لتأخذ طابع الاستثناء”.
ولو راجعنا منجزات الاحزاب المستوردة نجدها في دهاليز المخابرات الدولية والمصالح الاقتصادية لكبريات الدول، ومن ثم الى القصور الرئاسية، بينما يفترض ان تكون من اهداف الاحزاب المحلية المتكونة من شرائح المجتمع، معبرة عن ضمير هذا المجتمع والشعب وتعمل جاهدة لتحقيق الافضل على الاصعدة كافة.
السبب الثاني: فساد القيادة
جماهير الشعب، بكل مكوناتهم وشرائحهم، يرتكزون في طريقة تفكيرهم وأحكامهم الى الفطرة السليمة والى الوجدان والضمير، ولم يجربوا الافكار والنظريات المجردة التي ربما تدفع اصحابها الى التوسّل الى مختلف الطرق لتطبيقها على ارض الواقع، لذا فانهم يتوقعون من الحزب او التنظيم الذي يصل بأفراده الى المناصب الحكومية وايضاً مؤسسات الدولة، من قضاء وجيش وأمن وغيرها، ان يلتزموا قيم الأمانة والصدق والعفّة، لانهم في نظرهم يمثلون القيادة والقمة التي يرجعون اليها في حل مشاكلهم، او تطوير حياتهم، “فاذا ارتمى القائد في احضان الفساد، والرشوة، والاختلافات، والميوعة الخلقية، سقط من أعين الجماهير، وانفضّ الناس من حوله، والجماهير لا تسلم أمرها إلا الى القائد النزيه”.
هذا ما دعاه اليه سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في “السبيل الى إنهاض المسلمين”، في فصل خاص حول التنظيم ودوره في إنهاض المسلمين في العالم، واستعادة مجدهم وحضارتهم، وطالما أكد على جماهيرية التنظيم الذي قال انه “يعني ان تكون مؤسسات التنظيم وعناصره ملتحمة بالجماهير”.
وعندما نشهد نجاح التجارب السياسية في عديد البلاد الغربية، سيادة القانون والنظام والمضي في طريق التقدم، فان مردّه بالدرجة الاولى الى ثقة الجماهير باحزابها السياسية وبرموزها من نواب ومسؤلين تنفيذيين، ولذا فان اكثر ما يخشى منه هؤلاء من الفضائح المالية او الجنسية او غيرها، هو فقدانهم ثقة الجماهير، وتعرضهم للمسائلة القانونية والاحتجاجات العنيفة في الشوارع.
السبب الثالث: تجاهل مشاعر الجماهير
و يورد الامام الشيرازي في كتابه، مقوّم ثان لتنظيم جماهيري حقيقي وناجح، وهو احترام الجماهير وعدم التجاوز على مشاعرهم وحقوقهم، فان “كثيراً من التنظيمات يأخذها الغرور والعجب بنفسها، فتنظر الى الناس نظرة احتقار، وترى نفسها هي العاملة والآخرون خاملون!”، وهي النظرة النخبوية التي طالما ابتليت بها تنظيمات اسلامية، فكانت فيروساً في كيانها، بدلاً من ان تكون عامل قوة، كما يتصور القادة، فقد دلّت التجارب وأكد العلماء على أن قوة التنظيم تأتي في جزء منها، من قوة القاعدة الجماهيرية.
واذا القينا نظرة خاطفة الى طبيعة تعامل الاحزاب السياسية العراقية مع الجماهير من خلال تصريحات ومواقف رموزها في مؤسسات الدولة، نجد فداحة الخطأ والخسارة في هذه العلاقة بسبب روح التعالي من هؤلاء إزاء عامة افراد الشعب العراقي، وهو ما لمسه الجميع طيلة السنوات الماضية، بدءاً من طريقة سير المركبات المظللة في الشوارع، او حتى تجول “المسؤولين” بين الناس في الاماكن العامة، او التصريحات التي تحمل جهلاً غريباً باوضاع الناس ومعاناتهم، هذا فضلاً عن أرقام الفساد المهولة التي ترشح بين فترة واخرى، والاخطاء المتكررة والمخزية في الجهاز التنفيذي او القضائي او التشريعي دون أي تراجع واعتذار كأن شيئاً لم يكن، وكأن ليس هنالك بشر يقرأون ويسمعون ويتابعون لحظة بلحظة.
وحتى نعرف مآل هذا النوع من السلوك، يكفي العودة الى تجربة الاحزاب السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية، والتي عدّها سماحة الامام الراحل باربع واربعين حزباً سياسياً من مختلف التوجهات والانتماءات، وقد بذلت وعملت، بيد ان المصير كان السقوط مع سقوط الحكومات والانظمة السياسية، لان حياتها كان مرتبط بالسلطة والحاكم وليس بالجماهير، وإلا لو كانت العلاقة بين الجانبين طيبة وقائمة على الاحترام والثقة، لكانت الجماهير تمثل القاعدة القوية يقف عليها ذلك الحزب الجماهيري ويكون بامكانه مواجهة التحديات والنجاة من عواصف السقوط.