مديات أخرى خارج الخلق الكوني

قيس مجيد المولى

يُقدم أدونيس على مناظراته التحويلية حين يُقرب الصوت من الآخر ويتطلع لنتاج شيء جديد وهو قد هضم المعنى الإفتراضي، والذي لا بد لهذا المعنى الافتراضي من الحضور ببعده الرمزي وبقرب حقيقته ونوعه وشكل تصور لهذه الحقيقة سواء كانت تتعلق بمنتج بشري أو تتعلق بنتاج علاقات تكوينية ضمن مديات الخلق الكوني.

ولا شك أن القصد من البناء يعتمد على قياس القدرة لتحريك أو إزاحة ما علق بالمناخات المتوارثة والقصدية التصورية ما كانت دلالات الأسماء توفرها ضمن إحتياجات الشاعر حين يتعامل مع مفردات مثل (السماء – الدخان – الخالق – الماء – السهم – البحر – الحوت – الليل – النهار – الجبال .. إلخ ) وهذه المفردات هي مفردات مُخيرة تقع ضمن الرؤيا التخيلية لمديات النشوء، وقطعا فالعديد منها يرتبط بموروثات الأساطير أو موروثات الخلق عبر مفهوم الديانات البدائية أو الديانات المتأخرة لهذا المفهوم.

ومن الواضح أن عملية التعامل مع النشوء والخلق وإعادة توطين المتناقض والمتضاد مما تم الإعتياد عليه يضع الشاعر في مواجهة البناء البنيوي للغة والتي يسرف محيطها الإستيعابي بأنشطاراته كي تتعمق ببعد آخر الدلالات الرمزية والتي تقوم على ترتيب الحكاية بين التكوينات لتتكشف وتكون كمرافق أو بديل للأسس الشائعة والمتوارثة التي أستندت عليها الكثير من الفنون وليس الشعر فقط.

إن عملية خلق الكون وما صاحبها فيما بعد من حكايا وتفسيرات جانبية وخلق آخر موهوم ترك أثرا في الجانب الأستقبالي لمخيلة المتلقي، ولا شك أن الشاعر هو جزء من عملية الألتقاط والفارق بينهما أن المتلقي يحاول الوصول السريع للذة، أما الشاعر فيحاول البحث عن الكم والكيف في هذه اللذة ليستطع بالتالي الوقوع في التباينية التي تلزمها بها مخيلته.

إن عملية الخروج من أي بيئة يتطلب إقامة شكل من العلاقات التكوينية الحادة والتي تلتقي مع التكوينات التي أشرنا إليها تلتقي بشئ يسير وعند نقطة معلومة بحيث لا تكون هناك إلتقاءات في مناطق أخرى ضمن جسد النص وروحه، فيفقد البناء التكويني الجديد تلك القدرات التي استطاعت من الانفصال من الموروثات الأسطورية والدينية وحتى اللغوية المألوفة والتي ذكرنا بأنها تشكل أساسأ في عملية البناء الشعري.

ففي “بحر قائم في الهواء” يقول أدونيس:

كانت المدينةُ ألف

قبل تكوينها جوهرة خضراء

نظر إليها الخالق نظرة هيبة فصارت ماءً

نظر إلى الماءِ غلا وتصاعد منه دخان وزبد

صار الزبد أرض المدينة والدخان سماءها

شدها الخالق بالحبال لكي لا تهوى أو تميد

وزينها بالأزمنة ووعدها بأن تتحول إلى أرض ثانية

بيضاء جميلة كالخبز…

ويبدو أن أدونيس أراد أن تكون هناك مقدمة شعرية ما لكنها غير منفصلة عن توارد المضمون أو وكأنه أراد شيئا إستباقيا من أنه يبدأ بالتقريبي لينحو إلى المؤول والغريب وكأنه باطنيا يفكر أن لا يكون هناك أي ضوء يساهم في فك شفرته رغم ما تعنيه النصوص الكوني.

ولزيادة في إشغال التكوين جمع ما لدى مخيلته من الكائنات، وهي كائنات كانت متداولة ضمن الحكايا الأسطورية والحكايات الحديثة ولها رمزياتها في الإستخدام (الحوت – النسر – الغراب) وتلك من الكائنات الأثيرة التي تعاملت مع الأساطير في خلق الإنسان وفي كيفية خلق موارد الطبيعة كما هو الحال في خلق النار لجو فريزر وضمن المعاني التي أرادها أن تجمع بين الإنضباط التاريخي وبين التناقض الحتمي، وبذلك يستطع أن يقيم علاقة من نوع ما ما بين النص الذي أنتج بفعل مؤثراتها وبين الذي يريد أن يخفيه ضمن فائضين من التمركز المنطقي والتمركز الصوتي. ولاشك أن ذلك يعني أن أدونيس قبلَ الأساطير تكوينا ثقافيا لتكون على أقل تقدير كقاعدة لربط المعاني والتصرف بالدلالات، ورغم ذلك الخلط لا تجد أي شكل من أشكال المبالغة (hyperbole) وكذلك لا تجد أي دالة على الضبط القاتم لعملية التخيل (imagination).

في الشمس والقمر يسترسل أدونيس:

كانت الشمس في المدينة ألف

تسقط أحيانا من عجلتها، وتسودّ، تخويفا للناس

وكثيرا كانت تُحبس هي والقمر تأديبا

وكانا يسجدان ويصليان ويستأذنان بالشروق، فلا يؤذن لهما، إلا بعد إنقضاء ثلاث ليال، حين يكونان في سرة السماء، ويأتي إليهما ملاك يأخذ بقرونهما، ويطلعهما من الشرق، من باب التوبة.

إن المركز أو قطب الرحى الذي يجمع أدونيس الأشياء حوله هو المدينة أي التي قد تخيلها لكن الرائي أرادها أن تكون بوصفه أي موصوفة من قبل الرائي وبذلك مرر أدونيس شعوره المكاني لطرف آخر أي أنه أراد فتح مجالا حيويا آخر لتصديق رؤيته تحت عاملين متبادلين من الإثبات والنفي وحتم عليه هذا التبادل أن يسهب بالضرورات التي تشكل مكامن استرجاعية من الماضي أو أدق من ذلك من تأثيرات موروث الماضي ومكوث بعضها الى الآن في مناطق الإنتاج العقلي تجد (شجرة الزقوم – الفانية – العرش – الرب – القناديل- الثور الأسود …) وتلك الأشياء التي تبدو مرادفه للموت أو منبهة عنه تأخذ بعدها الجمالي ضمن ذاتيتها التعبيرية عندما يجردها الشاعر من وظائفها الأساسية والعمل هنا يقتضي التحرش بتلك النزعات الترابطية (Associationism) بدمغها بمتعارضات قريبة منها لكنها مختلفة في وسائلها ومختلفة في تقدير فوائدها في البناء الشعري ليستخدم بعد ذلك (كرسي من زجاج – سرطان في جوف البحر – مليئة بالتماثيل – العدو – صفير هائل …).

من ذلك يظهر أن هذه الإنقلابية تعني أن أدونيس سيبدأ تخيله الإبداعي (Creative imagination) عبر تلك النقلات لوضع المفردة في أصلها المعبر واستكشاف ما يليق من مفردات أخرى كي يطمئن لما بين تلك المعارضة التأثيرية وبين التحليق في المكان الشعري الذي لا يقبل بغير تلك الصور والتي شكلت له معنى حقيقيا بدلالة غير حقيقية فالقصد هنا(Intention) ما ترتب على العلاقة ما بين الخالق والمكان واللامتناهي (Infinite ) أي تشكيل طبيعة الحدث وتشغيل ملحقات المكان ضمن مديات النص، ليستمر في السرد:

وقيل أن المدينة بنيت على مثال مدينة أخرى تجلس على كرسي من الزجاج بهيئة السرطان في جوف البحر- مليئة بالتماثيل: تمثال يشير بسبابة يده اليمنى نحو الشمس أينما كانت تعلو الشمس فتعلو السبابة وتنخفض فتنخفض وتمثال ينبئ بالعدو – حين يدنو من المدينة يسمع للتمثال صفير هائل وتمثال يقيس الوقت.

لقد حاول أدونيس جر الماضي بهيكليته كي يدنو الحاضر ليحتفظ بسماته ويمتلك أي الحاضر شروطه للإفاده من محتويات نشاط الماضي، الماضي الذي لن يبقى منه غير الذي لم يعد له وجود الآن، وهي عملية ترسيب جديد في العقل ومحاولة إنتاجه ثم اندماجه في نزعة التوازي ( Parallalis    ( تارة أو في نزعة الفردية الذاتية الأنا الواحدية (Solopsism ( ولا يزال – وإلى اليوم – نصه منفتحاً كونه لا يريد مغلقات لنصوصه.

شاهد أيضاً

ناسا تخصص 3 مليون دولار لمن يحل معضلة “القمامة على القمر”

تُقدم وكالة ناسا الأميركية جوائز نقدية بقيمة 3 ملايين دولار لمن يُساعد في حل مُشكلة …

error: Content is protected !!