قيس مجيد المولى
قفزت قصيدة النثر إلى الواجهة، وقد تزامنت بمقربة والحدود الزمنية التي حطم بها السياب ونازك عمود الشعر فقد أقدم أدونيس في العام 1960 على نشر مقال له في مجلة “شعر” البيروتية ذات الإتجاه الحداثوي.
والمهم في هذا المقال أن أدونيس وضع الخطوط الرئيسة لمفهوم قصيدة النثر ليُفرق ويفترق بها عن النثر الشعري. وقد كانت سوزان برنار – وقبل عامين من مقالة أدونيس تلك – قد نشرت “قصيدة النثر من بودلير ليومنا هذا” لم يُغيبْ أدونيس في مقالته عن قصيدة النثر وحدة الشكل وكذلك لم يُغيبْ كونها تنتظم في بناء تركيبي ولم يُغيب كذلك كونها مجموعة من العلائق وصادرة عن أفق واع.
ولاشك – ولكي يكون هناك قاطعا ما بين قصيدة النثر والنثر الشعري – فإن أدونيس دلف إلى مجموعة من الخصائص والتي بواسطتها يمكن تسمية النص المطروح بقصيدة النثر فقد أجمل أدونيس هذه الخصائص بمفاهيم الوحدة والكثافة (أي الخلو من الإيضاحات والشروح) وكذلك أن تكون مكتملة بوحدتها العضوية وببنائها الفني المتميز.
انتشرت الكتابات الجديدة وأمتلأت أعداد مجلة “شعر” بنصوص من العراق وسوريا ومصر ولبنان وبلدان المغرب العربي ليحتدم الصراع في مركز الأستقطاب الثقافي في العالم العربي وعلى أرض الكنانة بين القديم والجديد.
وتتكفل مؤسسات الدولة في مصر بالدفاع عن قديمها ورواده أمام الموجة الجديدة التي سلكت طريق قصيدة النثر بدءا من العام 1971، في المنظور العربي من الحداثة الجديدة قدم النقد العربي آراءه نحو المعاصرة الجديدة بعد أن قدموا ما لديهم نحو الجديد الأوروبي. فقد حلل النقاد العرب البنى التي ارتكزت عليها هذه الحداثة فتناولوا اللغة والصورة الشعرية وقضايا الزمان والمكان والمخيلة والمدينة ضمن مساهماتهم التي ذكرناها في رصد تحولات النموذج الغربي الجديد عامة والتحولات الشعرية والتنظيرية في فرنسا خاصة.
حلّق إحسان عباس عبر “اتجاهات الشعر العربي المعاصر” كأحد المساهمين في الكشف الجديد، ورصد تلك الانتقالية في تباين العلاقات اللغوية والنحوية والمنطقية ثم العلاقات الفكرية بينهما أي رصد قابلية المعنى وما الذي يعنيه، أي كيف نفهم وما الذي يجب أن نفهمه وهل من الضرورة أن نفهم كذا وكذا، وضمن هذه النظرة التاريخية أستند الدكتور أحسان عباس على بعض النصوص لبعض الشعراء للإستدلال ولتوضيح مفاهيم عديدة منها التفكك الظاهري والمقاربة والإستعارة والتشبيه وصولا في نظرته التاريخية إلى مفهومي “الفهم” و”الإيحاء” واللذين ساعدا على كشف كيفية تحطيم انضباطية اللغة والشكل القديم في القصيدة.
توالى النقد يحفر الظاهر القديم وباطنه لكشف مشاكل الشعر الكثيرة، وفي مقدمتها قدرة اللغة الإيحائية وعلاقة الإبهام بالباطن، وكذلك المقاربات ما بين الحلم والشعر والتي فتحت اللاوعي على مصراعيه، وهذا يعني أن ارتياد التجربة الجديدة يرمي التفوق على التجارب السالفة، وتم تلمس الطريق الجديد من قبل النقاد العرب وبكل وضوحه لدى نازك الملائكة حين تغلغلت في المساحات غير المرئية من المعنى، وقد أيدت نظرتها تلك في كتابها “قضايا الشعر المعاصر”، ويبدو وضمن قضايا الشعر العربي الحديث لم يطرأ أي متغير ضمن التشكل المنسجم الإداء نحو الجديد، وأن ظهر القليل منه فلا يعد بمثابة متغير معاكس، بل سجالات جانبية بين البعض من رواده مما جعل الهيمنة مطلقة وواضحة صوب التوجه الجديد بالشعر نحو مطلقه الجمالي. سجل الشعراء ما لديهم عبر “شعر” و”الآداب” وقبلهم من الشعراء من وثق ما لديه عبر “أبولو” وهم بذلك قد أوضحوا اتجاهاتهم الشعرية التي أعتنقوها .
باعتقادنا أن خطيئة التصدي للشعر الجديد والتي كما ذكرنا كانت على أوجها في مصر تتعلق بطبيعة اللغة كون المجددون أرادوا انتهاكها، وكان بالمقابل أن اعترضت مؤسسات الدولة الثقافية المتمثلة بالوجوه الأدبية الكلاسيكية، وعدوا ذلك خرقا بأمن الدولة ومفهوم الأمة والقومية، لكن الموجة الجديدة رمت كل ذلك مع المياه الآسنة لتبقى سمكة الشعر تتنفس من المياه العميقة والعذبة.
كان الشعر في العراق قد كنز كنزه بنازك والسياب والبياتي وسعدي وصارع هؤلاء الشعر في الأبدية والقرين فتجاوزوا مفهومه الدارج ووظيفته الوضعية وعبر العراق التم شمل المشرق العربي وانعطف التجديد على مغربه ليعيش الجميع يوتوبيا سعيهم لإدراك صيرورة الشعر الجديد.