ميسون أبو الحب
ظهرت أولى الحضارات في العالم في منطقة سهلة غنية بالمياه يجري فيها نهران عظيمان منحاها خصوبتها، ومهّدا لقيام مجتمعات بشرية منظمة للمرة الأولى في التاريخ، هذه المنطقة هي بلاد ما بين النهرين.
حضارات بلاد ما بين النهرين وتاريخها وإنجازاتها موضوع مجلد ضخم يقع في 1040 صفحة شارك في إنجازه متخصصون في شؤون الشرق القديم ووادي الرافدين تحت إشراف المؤرخ الفرنسي المعروف جويل كورنيت. ويأتي المجلد ضمن سلسلة “عوالم قديمة”، وهو الثالث بعد مجلدين، خُصص الأول لتاريخ أوروبا القديم، والثاني لحضارة مصر، ويحمل عنوان “بلاد ما بين النهرين من غلغامش إلى أردوان”.
يغطي الكتاب فترة زمنية طويلة تمتد بين 8500 و100 قبل الميلاد، مع تركيز على الفترة الممتدة بين 3500 و100 قبل الميلاد أي عندما بدأت الكتابة في أوروك، وإلى حين زوال حضارات بلاد ما بين النهرين.
كما يتضمن المجلد عددًا كبيرًا من الوثائق والنصوص القديمة وحوالى 58 خريطة، إضافة إلى عشرات الصور والرسومات. ويشرح بالتفاصيل تاريخ المنطقة الديني، والتقدم التقني فيها ونتاجها الفكري ونوع علاقاتها الاقتصادية وبناها السياسية، ولكنه تناول كل هذه القضايا باستخدام بسيط الكلمات والتعابير، ليشرح ثقافة وتاريخ منطقة رسخت الأسس التي قامت عليها كل ما أعقبها من حضارات.
تعتبر منطقة “بلاد ما بين النهرين”، وهي العراق حاليًا، المكان الذي اخترعت فيه الكتابة المسمارية، وتعلم سكانه زراعة الحبوب باستخدام وسائل ريّ طوّروها على مدى مئات السنين، واخترعوا المحراث الخشبي والعجلة، وكوّنوا أول أشكال الدولة، وأسسوا أول إمبراطورية في العالم، ووضعوا أولى الضوابط والقوانين في التاريخ. كانت بداية هذه الحضارات الأولى في الألفية الخامسة قبل الميلاد، حيث ازدهرت حتى حوالى 500، لتختفي كليًا في حوالى 100 قبل الميلاد.
وبحسب المجلد، ظهرت الكتابة بشكلها البدائي والبسيط للمرة الأولى في التاريخ في حوالى 3400 قبل الميلاد لتلبية احتياجات تجارية، ولتسجيل عقود بيع وشراء ومقايضة، ثم ما لبثت أن تطورت لتسجل ضوابط وقوانين، هدفها تنظيم حياة البشر. لاحقًا بدأت الكلمات المكتوبة تسجل الأحداث المهمة والنصوص الأدبية، إضافة إلى التعاليم الدينية.
نتجت هذه الحاجة من تكون تجمعات سكانية، سرعان ما تحوّلت إلى مدن صغيرة، يسكن في كل منها حوالى عشرة آلاف شخص، وهو ما يتطلب تنظيم حياتهم بطريقة غير مسبوقة، ما استوجب وضع قوانين وسنن خاصة، كان أهمها وأشهرها قوانين حمورابي التي نقشت في الألفية الثانية قبل الميلاد على حجر من الديوريت الأسود يبلغ ارتفاعه مترين و25 سنتمترًا، وهي محفوظة حاليًا في متحف اللوفر في باريس.
ظهرت في منطقة وادي الرافدين على مدى خمسة آلاف عام قبل الميلاد مدن ذات نفوذ وسلطان، ظلت تنافس إحداها الأخرى، ولكن بعضها تمكن من بسط سلطته على المدن المجاورة، بل ومدّها من مصر إلى وادي السند.
كان السكان يعتمدون بالدرجة الأولى على الزراعة، باعتبارها المورد الرئيس في المنطقة، وطوّروا في سبيل تعزيزها وسائل ريّ يشار إليها بالبنان، وتبدو منسية في عراق اليوم. وكان السومريون هم من اخترع المحراث الخشبي، الذي ضاعف الغلة، وساهم في تعزيز استقرار السكان، وزيادة عددهم، وتمركزهم في أماكن محددة، وهو ما ساهم في نشوء المدن للمرة الأولى في التاريخ.
لاحقًا احتاج السكان مواد أولية أخرى لا توجد في المنطقة، مثل الأخشاب والأحجار والمعادن، وهو ما دفعهم إلى ممارسة التجارة، واستخدام مبدأ المقايضة، وسرعان ما سيطر الأغنياء على النشاطات التجارية مع مناطق الجوار، واغتنوا وشيّدوا أسوارًا مرتفعة لحماية مدنهم، وبنوا مساكن ضخمة لأنفسهم، مقارنة ببيوت العامة البسيطة، الذين كانوا يخرجون إلى مزارعهم خلال النهار ليعودوا عند حلول الظلام قبل إغلاق أبواب المدن. وطورت مدن المنطقة أيضًا وسائل حماية من الفيضانات التي كان الناس يعتبرونها إشارة إلى غضب الآلهة.
نشأت هذه المدن في نحو 3100 قبل الميلاد، وتركزت غالبيتها في منطقة سومر في جنوب وادي الرافدين، وكان سكانها الذين يمارسون مهنًا أخرى غير الزراعة، مثل الحدادين والفخارين وعمال البناء والتجار والجنود والكهنة والكتبة، يحصلون على حصصهم من الطعام والمنتجات الزراعية مقابل عملهم.
اخترعت المنطقة أيضًا العجلة، وترك سكانها آثارًا مهمة تعكس معرفة معمقة بالفلك وبعلم النجوم وبالرياضيات. أما أول إمبراطورية في التاريخ فأسسها سرجون الأكدي في نحو 2334 قبل الميلاد بعد غزوه المناطق الشمالية، ثم وصوله إلى البحر المتوسط، حيث وحد شعوب المنطقة.
ظهرت أيضًا في فترة لاحقة، لا سيما في فترة الآشوريين، منحوتات تمثل جنودًا وهم يتوجّهون إلى ميدان المعركة في عربات تسير على عجلات.
في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد تحوّلت بلاد ما بين النهرين إلى مركز جذب واستقطاب، وازدهرت الحياة والتجارة والعلوم والفنون فيها. وعثر المتخصصون في اللقى الأثرية على معلومات كافية لرسم صورة واضحة عن حياة شعوبها اليومية وعن طقوسهم وكذلك عن تاريخ ملوكهم ومآثرهم، ومن أهم هذه الآثار ملحمة غلغامش.