صوتها – بغداد
للفيلم عنوان طويل هو “ثلاث لوحات إعلانية خارج إبّيغ، ميزوري” وعنوان فرنسي قد يكون أكثر مباشرة هو “ثلاث لوحات إعلانية: لوحات الانتقام”، وهو لمخرجه القادم من المسرح، كأحد أبرز كتّابه في إيرلندا، مارتين ماكدونا، الذي كتب السيناريو القويّ للفيلم وأخرجه وأنتجه.
الفيلم لافت من عدّة نواح: الإخراج والحكاية والشخصيات وحتى الفكرة، أو المعنى الذي يمكن للفيلم أن يوصله. الحكاية هي لسيّدة اسمها ميلدريد هايز (فرانسز ماكدورماند) التي قُتلت ابنتها قبل زمن الفيلم بعدّة أشهر، تمرّ من أمام ثلاث لوحات إعلانية بالقرب من بيتها، ويخطر لها أن تستأجرها لتذكّر بالجريمة، ففعلت وألصقت عليها كتابات تقول بأنّ ابنتها «اغتُصبت بينما كانت تموت» و»لا اعتقالات حتى الآن» و»كيف يمكن لذلك أن يحدث». وذكرت رئيس قسم الشرطة بالاسم.
هنا يبدأ الفيلم وهنا تبدأ المشاكل التي ستلاحقها، بدءاً من تضييقات الشرطة إلى الآخرين، تهديدات وحرق للوحات، بتطوّر للشخصيات في الفيلم، وهي شخصيات بحضور قوي، لها حوارات متمايزة، واقعية، بأداء لافت لماكدورماند وبدرجة أقل لوودي هارلسون (رئيس قسم الشرطة).
في الفيلم كوميديا بمستوى عال، كوميديا سوداء بطبيعة الحال، فالحديث هنا عن عملية اغتصاب وقتل، تبعها تلكّؤ الشرطة في إيجاد القاتل، ومبادرة الأم لتضغط على الشرطة الفاسدة كي يجدوا قاتل ابنتها.
هنالك نقاط محوريّة تتأسّس عليها الحكاية، أولها الشرطة وفسادها، ففي الفيلم إشارات ومشاهَدة مباشرة عن عنف أحد رجال الشرطة، وهي شخصية مهمة في الفيلم، هو الشرطي الثاني فيه بعد رئيسه (سام روكويل)، فلهذا قصّة متداولة عن عنصريته وتعذيب شاب أسود، ثم نراه يبتز الآخرين، وأولهم الأم، ونراه يعتدي بالضرب على موظف شركة الإعلانات وزميلته، ويرميه من النافذة فيتسبب بمكوثه في المستشفى، كما يقوم بأعمال شرّيرة أخرى لن نفسد الفيلم بذكرها هنا، لكنّه ينال عقاباً أخيراً، من الأم ذاتها، عقاباً كان مدخلاً لشخصيته كي تتطوّر، كي يتقارب مع أم القتيلة وهو الذي كان يتابع القضية بكل كسل متعمّد، يقرأ بدل ملف القتيلة مجلّات الكوميكس.
لكن لكونه الشخصية الثانية في الشرطة، لا يمكن أن يجد مكانه في الحكاية كشخصية أساسية، بدون أن يخرج الرئيس عن طريقه، لأنّ ـ حتى اللحظة ـ الشخصيتين الرئيسيتين هما الأم والرئيس. هذا الأخير مصاب بالسرطان، وكي لا يجعل زوجته وابنتيه يعانون من مرضه ويرونه ضعيفاً، ينتحر بطلقة من مسدس على رأسه. هنا خرج من المشهد وفتح المجال للشرطي الآخر، كشخصية شريرة، لأن تكون الشخصية المقابلة للأم، وبالتالي لتتطور كشخصية رئيسية ثانية. فيتطوّر الفيلم بشخصيتيه: الأم والشرطي الذي ـ وقد بدأ يتغير ـ يسعى لإيجاد القاتل ويتعرض للضرب في شجار مع من ظنّ بأنّه هو، ليقررا على الهاتف، هو والأم، قتله بدون أن يكونا متأكّدين من أنّهما سيفعلان.
مسألة أخرى يشير إليها الفيلم: الإعلام ودوره في التأثير، الإحالات إلى التلفزيون والمراسِلات الصحافيات تشير لذلك، لكن المسألة بانت أساساً في اللوحات الثلاث، وهي هنا لغاية إعلامية وليس إعلانية، فهذه اللوحات «الإعلانية» لم تكن تعلن عن منتج، بل كانت تعلِم الناس بأن القاتل ما زال طليقاً، وأن الشرطة لم تفعل شيئاً حيال القضية منذ أشهر.
بدأ الفيلم باللوحات الإعلانية الثلاث وانتهى بها، وكانت هي المركز الذي تدور حوله الأحداث، الأم تقاتل لبقائها والشرطة تسعى بكل الطرق لإزالتها.
في الفيلم مسائل اجتماعية نُقلت بشكل حكائي، بدون أن تكون ـ هذه المسائل ـ فجّة ومباشرة، بل هامشية في سياق الحكاية بالمجمل: حكاية الأم التي تسعى للضغط على الشرطة كي تأخذ القضية على محمل الجد وتجد قاتل ابنتها. من هذه المسائل فساد الشرطة في الولايات المتحدة وعنصريتها وسطوتها وعنفها، وذلك يأتي بالتزامن مع حالات عدّة تظهر بين وقت وآخر، ما استدعى لحركات اجتماعية بالنّشوء كـ«بلاك لايفز ماترز» (لم يُشر إليها الفيلم)، لكنّ الفيلم لا يتخلى عن البعد الإنساني، بإمكانية تحوّل الشرطي العنصري المعذّب من شخصية شريرة إلى أخرى خيّرة. مسألة أخرى لا تقل أهمية وهي قدرة الأم، كامرأة تخلى عنها زوجها من أجل فتاة ظهرت كبلهاء، ابنة 19 عاماً، قدرتها لوحدها على مواجهة المجتمع الذكوري المكوّن من الزوج السابق ورجال الشرطة، ومن قدِم إلى حيث تعمل واعتدى عليها، إلى غيره من ضغوطات المجتمع، وقد استطاعت مواجهتهم لوحدها، ففي الفيلم هذه الامرأة وابنتها المغتصبة والمقتولة، وفي المقابل ذكورية متمثلة أساساً في رجال الشرطة الذين استطاعت هي، بقوة شخصيتها وإرادتها، تغيير الشرير فيهم إلى خيّر.