علي حسن الفواز
حربُ السلطة في ما يكتب من روايات عراقية اليوم هي حربُ الفنطازيا ووقائعها، وحربُ الجنون، هي حربُ التفاصيل والسرائر والسحق، إذ تستغرق الأولى الأمكنةَ واليوميات بما يشبه المحو، وتأخذ الثانية الإنسانَ إلى العتمة والخواء، حيث عجزه عن مواجهة الحرب والسلطة، وليجدَ نفسه أمام “فسحة للجنون” بوصفها مجالا للإيهام المُضاد بالحياة.
رواية “فُسحة للجنون” للروائي سعد محمد رحيم، تضعنا أمام لعبة تلك الهواجس، حيث تتحول سردية الجنون إلى مواجهة مرعبة مع واقعية الحياة وعبثيتها، ومع الحروب التي تصطنعها السلطة وهي تصطاد الحالمين والعشاق إلى سجونها وإلى مراكز التصفية العقلية.
تتشكّل مستويات الحكي في هذه الرواية، الصادرة أخيرا عن دار سطور للنشر، على وحدات سردية متناظرة، تبدأ من وحدة كلية الفنون الجميلة مقابل وحدة السجن، وحدة الحياة والحلم مقابل وحدة الجنون وتعطيل الذاكرة، ووحدة المكان/ المدينة/ المكان الأليف، مقابل وحدة الجبهة/ البلدة الحدودية المهجورة/ المكان المعادي، ولا تنتهي عند رمزية المرأة-نهلة، كميلة مقابل هيمنة ذكورية السلطة، وذكورية الحرب.
الرؤية السردية لهذه المستويات تتبدى عبر جملة من المؤشرات، إذ تكون الشخصية فيها هي بؤرة التمثيل السردي، وهي مجاله- أيضا- في توصيف وظيفة هذه الشخصية، وتحديد مستوى حضورها في رصد الأحداث، وفي الكشف عن الكثير من تفاصيلها، وهو ما يجعلنا أكثر ثقة في أنّ هذه الرواية هي رواية شخصيات بقدر ما هي رواية أحداث، وأنّ التعالق ما بين الشخصية والحدث يتبدّى من خلال سردنة رصد التحولات العاصفة التي تواجهها الشخصيات.
وعبر المفارقة في رؤيتها لتمفصلات الزمن السردي للشخصية الرئيسة، والقائم على تمثّله للقطيعة بين العقل والجنون، إذ يبدو الحكي الأول لشخصية عامر لا علاقة له بالحكي الثاني لشخصية حكمت/ حكو، رغم أنهما يعيشان في شخصية واحدة، وكأنّ هذه القطيعة هي تعبير عن المصير التراجيدي لشخصية المثقف/ قربان السلطة والحرب وضحيتهما.
كما أن تحليل تحوّل هذه الشخصية الأضحوية من وجودها إلى حلمها إلى اعتقالها إلى موتها الرمزي، هو تتبع لتحولات الرعب في السلطة ذاتها بدءا من الرقابة، التلصص، وصولا إلى صناعة الحرب بوصفها استعارة الطرد الكبرى لشخصية البطل الرئيس، كونه الرائي و”الشاهد الأصيل على ما يجري ولكن، للأسف لن يدلي بشهادته في أيِ محفل أو محكمة”.
صيغُ السرد في هذه الرواية تنطلق من طبيعة وصفها كطريقة لتقديم الأحداث والشخصيات، وفي سياق ما تتحدّث عنه، أو ما تكشفه، وهذه التقانة أعطت للراوي العليم حافزه في ترسيم الأحداث، وفي مراقبة حركة الشخصيات وانخراطها في لعبة السرد، فهو لم يضعنا أمام لعبة “تبادل الأدوار الحكائية” كما يسميها سعيد يقطين، بقدر ما أعطى لشخصياته نوعا من “السرد الخاص” للانكشاف الحر أمام الأحداث، عبر رصد الأحداث، أو عبر التعريف بالشخصيات وتتبع حيواتها، تلك التي تبدو وكأنها غير ثابتة في المكان، ومصابة بقلق وتشظي الزمن.
وأن خطابها الحكائي يتجوهر حول تصويرها في السياق السردي، وفي سياق تقديم شهادتها المضادة للسلطة والحرب، والانحياز لضحاياها، جوقة المعاقين والحيوانات واللصوص الذين يلاحقهم حكو رغم جنونه الاحتجاجي “أنا موجود لكن، غير حاضر.. أنا أهذي، لكن الحرب قادتنا جميعا إلى الجنون بعينه”.
هذه الثنائية بين الوجود والغياب تتبدى كذلك عبر الصيغة الخطابية للرواية، حيث يشتبك خطاب الشخصية الرئيسية حكو مع خطاب الشخصيات الأخرى الساندة، وعبر ما تصطنعه الأحداث من خطابات أو نقلات أو تشظيات في المكان، أو في تعويم زمن الشخصية، من الاعتقال والتعذيب، عطب الذاكرة وضياع المسار، وعبر إجراءات وظيفية ساندة تتبدى من خلال تلاحق الأفعال داخل السياق الروائي، والتي تؤديها المرأة كميلة، ورجل الأمن المحقق والصديق الدكتور راسم، والحاج مرتضى، وفي سياق يتكفل فيه الروائي تقديم خطاب إدانة للحرب، وللسلطة، مثلما يقدّم خطاب تماه مع المثقف/ الأضحية، والذي يرى الأحداث، عبر “فسحة جنونه” أو عبر “روحه المتمردة وذاكرته الخربة وجنونه، فهناك تحت طائلة القصف والجوع والخوف، سيحيكُ فصولا مثيرة من قصته مع حيوانات، ومع صحبه ممن يشبهونه في الهروب من العالم إلى مملكته المجنونة”.
اعتمد الروائي كذلك بنية اللقطة السينمائية كإطار لترسيم أحداث الرواية، ولرصد حركات شخصياته، وتوظيف عين الكاميرا عبر تقانة “الفلاش باك”، وعبر رصد الأثر الذي تركته الحرب على الأرض/ المكان، ورصد الأثر الذي تركته السلطة على الجسد، من تعذيب وجنون، وعبر توظيف عين الكاميرا من قبل الفريق الصحافي مع الحبيبة نهلة الذي زار البلدة المهجورة، ليرصد الخراب، والحيوانات الجائعة، وما تبقى من صورة البطل المثقف/ العاشق المعطوب.
تتناظر هذه الثنائية المشهدية بقصدية واضحة، من خلال محاولة الروائي لتقديم منظور سردي حاد، له وظيفة سيميائية لتفسير ما جرى في الوقائع العراقية، وعبر شفرتي الحرب والسلطة، ومن خلال قدر واضح من التأويل، إذ أعطى للجنون بُعده الاستلابي في تعرية وفضح الوقائع، وفي تبرير سردنة وتوليف الحدث الروائي.
عين الكاميرا استظهرت الجسد بوصفه فضاء، أو بوصفه بؤرة لتلك الوقائع، إذ وجد الروائي في تقديم صورة جسدانية للبطل تقانة تصويرية واضحة لهوية أضحويته، عبر لحظات عشقه، أو عبر لحظاته الحميمة وهو يرسم بورتريه لحبيبته نهلة، أو في لحظات تعذيبه واغتصابه، أو عبر صور خذلانه وجنونه، وهو يركض بعبثية في أزقه البلدة س، أو يذهب إلى البلدة ب.
وفي مناورة سردية يلعب الروائي في تأزيم نهاية الحدث، إذ لا تنتهي الحرب، مقابل افتراض نهاية الشخصية أو غيابها، ولعل اختيار النهر القديم، وشظية الحرب وذاكرة اللون لصياغة مشهد النهاية، يضعنا أمام بنية سرد سينمائية، حيث تلعب عين الكاميرا فيها دورا مقاربا لما اقترحه الروائي وهو يضع بطله “أمام عين الرب” باحثا عن خلاص أو تطهير، وكأن وجوده الدامي في الماء هو إشهار لهذا الخلاص، والذي يعيدنا إلى نهاية بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” حيث الموت أو الغياب هو الوجه الآخر للخلاص.