الأمكنة والأزمنة في قصائد عصمت شاهين دوسكي

* المكان ليس مجرد حجر وتراب وشجر وإنسان وبنيان.

* الكأس مكان للوجود والقلب مكان للحياة.

* المكان والزمان توأمان لموقف وضمير الإنسانية .

*أحلام حيارى غنتها المغربية سلوى الشودري شاهدا على المكان والزمان

بقلم الأكاديمية كلستان المرعي – سوريا

ليس سهلا الحديث عن الأمكنة والأزمنة التي تلازم الشاعر في ظل أحداث كثيرة تمر عبر عمر ما وزمن معين فهي قد تكون خلاصة فكر متقد يوحي بأن المكان ليس مجرد حجر وتراب وشجر وبنيان فالمضمون و الجوهر أكبر من أن تعطي صورة ما ،هكذا الشاعر عصمت الدوسكي يختار الأمكنة مع الحدث بدقة كما هي في قصيدة الحدباء – دهوك – وكارثة العبارة التي وقعت في الموصل – وبادي – وعفرين – وتطوان وغيرها وبين يدينا الآن قصيدة ” سنجار ” التي زجت في كارثة إنسانية حيث ضمت الدمار والقتل والهجرة والنزوح والاغتصاب والسبايا وبيع النساء والأطفال في زمن إرهاب داعش ” أثاروا – نشروا – نصروا – جمعوا- استباحوا ” دالة على عدة جهات داخلية وخارجية هدفهم تدمير سنجار الإنسان والبنيان  ،قصيدة سنجار صور وجدانية إنسانية دقيقة صادقة  ،لقد زينت القصيدة بتشابه واستعارات وصور بيانية جميلة مثلا : في عيون النهار/ استعارة مكنيه ,لقد شبه الشاعر النهار بإنسان وحذف المشبه به الإنسان وأقام شي من لوازمه وهو العيون على سبيل استعارة مكنية ـ تشبيه القلعة كبحيرة آسنه/ لقد شبه القلعة ببحيرة , تشبيه صورة بصورة مع وجود أداة الشبه/ الكاف / فالصورة تشبيه / مرسل / فالتشبيه والاستعارة التصريحية والاستعارة المكنية والكناية تسمى : ب علم البيان وفي القصيدة محسنات بديعية من علم البديع مثل الطباق :  وهو تضاد بين كلمتين مثلا  / إقبال وإدبار / ليل ونهار / أقرباء غرباء / فالقصيدة غنية بالبيان والبديع وهذه نزعة إبداعية لدى الشاعر :

( آه لمن اغتصب الدار

القلعة ساكنة كبحيرة آسنة

لا يشرب منها الإنسان والأطيار

شوارع ركدت بيوت ردمت

لم تنج حتى الأزهار

صوت الرصاص صمت القناص

امتزج بين الإقبال والإدبار

لاهوت الوجود قاد الحشود

بين دياجير الفُجار

أثاروا الفتن نشروا المحن بين نار ونار

بين غفلة نصروا بين وهلة جمعوا

الولاء للأسوار

من جوع .. فقر .. من عذاب .. قهر ..

استباحوا الليل والنهار

الثكالى الحيارى المنايا الصبايا

يصرخن بين الأحجار

يحملن طفولتهن ينظرن يهربن

إلى تلال من قفار ) .

بما فيها من وصف جميل لسنجار وأشجارها وجبالها , ثم ما حل بها من الإرهاب والدمار وصوت الرصاص والقناص واغتصاب الدار وحتى الأزهار لم تنج من الإرهاب . سنجار التي أصبحت لعبة شطرنج بين أيدي متحكمة ،فحينما ينهار الشطرنج ستعود سنجار كما هي ستشرق الشمس عليها من جديد ” ما بال الشطرنج لا ينهار ؟ ” وحينما لا تنهار اللعبة ستبقى بين نار ونار ،نار الأقرباء ونار الغرباء ، هذه الأسطورة السنجارية تحتاج إلى قرار حكيم قوي لتعود سنجار مرة أخرى إلى الحياة .

(  سنجار يا سنبلة هيمنت على الروح

يا مطرا غسلت كل الجروح

مطرك ليس كل الأمطار

لا شعر مثل شعرك لا قد يشبه قدك

فما بال الأقطار ..؟

لا خد مثل خدك لا قلعة تشبه قلعتك

ما بال الشطرنج لا ينهار ..؟

أزقتك ، بساتينك ، نسرينك

صوت الحجل في قدميك

يشطر القلب إن شطار

زيتونك ، تينك ، جنانك

قمحك ، تبغك ، برجك

والعندليب ينشد بلا أوتار

سنجار بين نار ونار

والأبطال هائمون والأجيال حالمون

بين لعبة الشطرنج ولعبة القط والفأر

سنجار مهما قالوا فعلوا ، كتموا

تبقين خالدة في عيون النهار

أسطورة بين الغرباء بين الأعداء والأقرباء

خالدة بين الأقدار

يا سنجار ،يا سنجار ،يا سنجار

عجزت الكلمات رمدت الأمنيات

بين قرار وقرار ونار ….. ونار )

سنجار قضية ورسالة إنسانية للعالم توحي بأن المكان ليس مجرد مكان ،والزمان والأحداث تمر ويبقى المكان .

وفي ظل الوجع والغربة الروحية والمعاناة وبسحر هائم في واقعية الحدث الوجداني والفكري والحسي يبحر بنا الشاعر عصمت الدوسكي على بساط الذاتية وبألوان قوس قزح وبياض الياسمين ونعومة الزنبقة المنعشة كنسيم الفجر في هواجس قصيدته ” كأس وكأس ” التي ترينا ليالي الهيام وعمر الخيام والأحلام مستخدما “الكأس ” رمزا مكانا للوجع والألم والحلم والغربة والحرمان ،يدعو الشاعر إلى إفراغ الكأس كلما امتلأ بالهموم والحزن والألم ” افرغ الكأس واسقيني ” فكيف يمتلأ الكأس مرة أخرى إن لم يفرغ وهذه دعوة إلى عدم تراكم الهموم والأحزان والجراحات في ” القلب ” المكان الذي ينبض بالحياة ،لأن تراكمها وكثرتها يدمي القلب وقد لا يتحمل فينتهي إلى وقف النبض ،فالإفراغ وإعادة السقي أمر مهم تجديد للحركة للنبض للحياة ” كلما فرغ الكأس أملأه ” وفي القصيدة رنة موسيقية شجية عذبة كحفيف الغصون , وخرير السواقي , وأغنية الغدير وجدولا مترنما إلى البحر ,وقد تناغمت القصيدة بمحسنات وتشابيه واستعارات راقية, عيناك بحران / خداك الوردية ناضجة في جنان القلب / تصوير متناهي في الاستخدام الشعري ، ” العاشق – العطر – الشوق – شفتيك – محرابك – خمرك – خارطة ” وكأن الكأس مكان للوجود والقلب مكان للحياة. وهذا مقطع من قصيدة ” كأس وكأس ” .

( افرغ الكأس واسقيني

أنا العاشق منذ سنيني

دع العطر يثير أنفاسا

يحترق الشوق وأنيني

كلما فرغ الكأس أملأه

من ريق شفتيك يشفيني

ما دعاني محرابك خلسة

بل جنون خمرك يهذيني

أبحث عن خارطة شفتيك

ألمسهما بلمس  يشقيني ) .

من أراد أن يبحر فكريا وأدبيا في حياة وأدب الشاعر عصمت الدوسكي عليه أن يكون ملما في دقائق الخطوب التي مر فيها فهو لا يكتب إلا لمواقف إنسانية التي تشمل الجميع فرسائله الشعرية بلا حدود ولا قيود وإن كانت منها ذاتية محلية ، فالفنانة المغربية ” سلوى الشودري ” لحنت وغنت إحدى قصائد عصمت الدوسكي ” أحلام حيارى التي أذيعت وانتشرت على اليوتيوب ” فالفن والثقافة لا تعرف الحدود ولا المسافات ولا الحروب ولا الحواجز ,وقصيدة أحلام حيارى التي غنتها الفنانة المغربية/ سلوى الشودري/ تعطي صورة مشرقة على التواصل الإنساني رغم بعد المكان الذي يجمع الحضارات , سلوى التي غنت لكبار الشعراء مثل المتنبي, وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة ,  غنت ل عصمت شاهين دوسكي قصيدته الجميلة / أحلام حيارى / لتكون شاهدا على المكان والزمان  وعلى الإنسانية . ولو لم تر الفنانة المغربية سلوى الشودري الصدق والإخلاص والجمال والواقعية والإبداع الشعري لما اختارت قصيدته من بين الكم الهائل من الكتاب والشعراء ويبقى المكان والزمان توأمان للحدث للجمال للتواصل والإبداع  ولموقف وضمير الإنسانية .

شاهد أيضاً

٤٥ ألف كتاب مجاني بأكبر مهرجان للقراءة في العراق

انطلاق الموسم ١١ لمهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ” بحضور أكثر من ٣ آلاف شخص شهدت …

error: Content is protected !!