١١٢… رقم لا يجيب في غزة

رشا مهند

في طفولتي، قبل أن أنطق الكلام بطلاقة، كنت أغني في روضة الأطفال أغنية بسيطة : “١ فم، ١ أنف، ٢ عينان”، نلمس وجوهنا الصغيرة ونردد الرقم ١١٢.

لم نكن ندرك يومها معنى “الطوارئ”، لكننا كنا نعلم أن ١١٢ هو رقم الأمان. بأن هناك من سيهتم، من سيحضر، من سيحمينا إذا شعرنا بالخطر. كنا نؤمن أن يدًا ستمتد إن خفنا، وصوتًا سينقذنا إن عجزنا عن الكلام.

ترى، هل كنّا نفهم وقتها أن من حق الطفل أن يُسمع؟ أن لا يُضرَب، ولا يُهمَل؟ وأن الكرامة تبدأ من الجسد الصغير، من أن يُصغى لبكائه، أو حتى لصمته… لأن الصمت أيضًا صوت!

كبرنا في بلادٍ غير بلادنا تعلمنا فيها ألّا نؤذي قطة، ألّا نضرب كلبًا، وأن نمشي بحذر حتى لا ندهس نملة. أتذكّر خبرًا في نشرة المساء عن رجل إطفاء صعد إلى شجرة عالية لينقذ ببغاءً عالقًا، لكن الببغاء صرخ فيه: “دعني وشأني!” وضحك الجميع، لأن الطائر كان بخير، وكان له صوت…لكن ماذا عن الأطفال تحت الأنقاض؟ أولئك الذين لا صوت لهم، ولا أحد ينقذهم من ضغط ركام الدمار.

أقرأ عن قصف مستشفى في غزة ! مستشفى! مكان يُفترض أن يكون ملاذًا، حتى في أقسى الحروب. أشاهد صورًا لا تفارقني: أطفال ممددون، محاطون بفاجعة الألم وأصوات القصف ولون الدماء ، بلا أسماء… بلا ملامح.

من يجلس مع أطفال غزة كما نجلس نحن مجتمعين حول الطاولة؟ من يسمع صوت الطفلة التي فقدت أمّها؟
من يرى دموع الطفل الخارج من الركام وهو يهمس: “أين أبي؟” أين الرقم ١١٢ وسط كل هذا العذاب؟

كنا نغني “١ فم، ١ أنف، ٢ عينان” لنحفظ رقم ١١٢، لنتعلم أن هناك من يحمي. لكن أطفال غزة، بأي نشيد سيتعلّمون الحياة؟ بأي رقم سيطلبون النجدة؟ ومن الذي سيُجيب؟

هل يكفي الصمت؟ هل يكفي أن نحزن ثم نمضي؟ الصمت ليس حيادًا… الصمت تواطؤ. صوتك موقف، ومشاعرك مسؤولية.
لكنني أسأل نفسي: وماذا أفعل أنا سوى أن أكتب؟
هل تكفي الكلمات؟ هل تُرمم جراحًا؟ ربما لا. لكني أكتب، عسى أن تصبح كلماتي طائرة ورقية، تصل إلى طفل هناك… وتقول له: “أنت لست وحدك”.

شاهد أيضاً

أولئك الذين يسيرون رغم الريح

رشا مهند هناك أناسٌ، لو عرفت قلوبهم، لبكيت.يستيقظون كل صباح، لا لأن الحياة تبتسم، بل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!