التحولات السياسية في العراق ورهان الانتخابات البرلمانية لعام 2025

د. نبراس المعموري

تُعدّ العملية الانتخابية في العراق بعد عام 2003 إحدى الركائز الأساسية لمسار التحول الديمقراطي، لكنها ظلت منذ ذلك الحين محاطة بتحديات سياسية وأمنية واقتصادية أثّرت على بنيتها ومخرجاتها. ومع إعلان الحكومة العراقية رسميًا عن موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في 11 نوفمبر 2025، وفتح المفوضية العليا المستقلة للانتخابات باب تسجيل التحالفات السياسية بين 15 أبريل و4 مايو، بدأت معالم الحراك السياسي تتضح مبكرًا، وسط جدل داخلي حول المشاركة الشعبية، والانقسامات المتفاقمة بين القوى المتنافسة.

ورغم أن الانتخابات لا تزال على بعد أشهر، شرعت القوى السياسية العراقية فعليًا في تشكيل تحالفات جديدة، في ظل استمرار الاستقطاب التقليدي بين الكتل الشيعية والسنية والكردية. وقد برز على الساحة إعلان تحالف سياسي جديد بين حزب “متحدون” بزعامة أسامة النجيفي وتحالف “عزم” بقيادة مثنى السامرائي، في مؤشر على سعي الأطراف السنية إلى توحيد مواقفها وتحقيق مكاسب أكبر في الانتخابات المقبلة. في المقابل، فاجأ زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الساحة السياسية بإعلانه مقاطعة الانتخابات، وهو ما أثار جدلًا واسعًا، بالنظر إلى التأثير الكبير لهذا التيار في المشهد الانتخابي، لا سيما في المناطق المختلطة، حيث يُتوقّع أن يسهم هذا القرار في تقليص المشاركة، ويضعف من حظوظ القوى الشيعية في تعزيز تمثيلها النيابي.

في ظل هذه التحركات، عادت بعض الأحزاب السياسية إلى توظيف الخطاب الطائفي والمذهبي في تشكيل تحالفاتها، بهدف كسب شرائح محددة من الناخبين، وهو ما ينذر بتعميق الانقسام الاجتماعي، وعودة التوترات السياسية التي لطالما أعاقت بناء دولة المواطنة.

الفوضى الحزبية ونتائج الانتخابات

تُشير تحليلات عدة إلى أن الفوضى الحزبية، المتمثلة في كثرة الأحزاب، والانقسامات الداخلية، وتبدل التحالفات قبيل كل دورة انتخابية، شكّلت عائقًا حقيقيًا أمام استقرار النظام الديمقراطي. هذه الفوضى أسهمت في تشتيت أصوات الناخبين، خاصة في المناطق التي تشهد تنافسًا بين كتل متقاربة أيديولوجيًا، كما حدث في انتخابات 2018 و2021. ونتيجة لتآكل ثقة الجمهور في العملية السياسية، شهدت البلاد تراجعًا ملحوظًا في نسب المشاركة؛ إذ بلغت نسبة التصويت في انتخابات 2021 حوالي 41% فقط، وهي من أدنى النسب منذ 2003.

علاوة على ذلك، أسهم غياب الانضباط الحزبي في تفشي ظاهرة “المرشح الظل” وبروز تحالفات متناقضة، جمعت بين أحزاب متباينة فكريًا لتحقيق أهداف انتخابية مؤقتة، ما أدى لاحقًا إلى تفككها داخل البرلمان، وخلق أزمات سياسية متكررة، كما حدث بعد انتخابات 2021 حينما دخلت قوى مدنية في تحالفات سطحية مع قوى دينية، انتهت بالانفصال مباشرة بعد إعلان النتائج. هذا الواقع أنتج تمثيلًا نيابيًا لا يعكس بالضرورة إرادة الناخبين، بل يعبر عن تفاهمات ما بعد الانتخابات، وهو ما قوّض مبدأ تمثيل الشعب، وعزّز مناخ الاستقطاب السياسي والطائفي.

وعلى مستوى الأداء البرلماني، أدت هذه الانقسامات إلى شلل سياسي واضح بعد كل جولة انتخابية، حيث غالبًا ما تطول مفاوضات تشكيل الحكومة وتقاسم المناصب، بسبب غياب الكتلة الأكبر أو الأغلبية الحاسمة. المثال الأبرز على ذلك هو الأزمة التي أعقبت انتخابات 2021، حينما استمرت حالة الانسداد السياسي لأكثر من عام، بسبب انسحاب التيار الصدري وتضارب مصالح الكتل الأخرى.

التحديات والآفاق المستقبلية

يواجه المشهد الانتخابي العراقي اليوم تحديات بنيوية عميقة، أبرزها تراجع ثقة المواطن بالعملية السياسية نتيجة الأزمات المتكررة، والانقسامات داخل النخب السياسية، واستمرار الخطاب الطائفي، إضافة إلى هيمنة المال السياسي والسلاح غير المنضبط، واللذين لا يزالان يشكلان تهديدًا حقيقيًا لنزاهة الانتخابات. هذه الظروف أدت، عبر السنوات الماضية، إلى إنتاج برلمانات غير فاعلة، وحكومات غير مستقرة، ما زاد من اضطراب المشهد العام، وانعكس مباشرة على سلوك الناخب العراقي، الذي بات يميل إلى العزوف أو التصويت العقابي، مع تصاعد في دعم الحركات المستقلة بوصفها رد فعل على فشل القوى الحاكمة.
كما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا متزايدًا في توجيه الرأي العام، وتحديد أولويات الناخبين، وخلق منصات بديلة للخطاب السياسي التقليدي، وهو ما يعكس تنامي الوعي السياسي، خصوصًا لدى فئة الشباب، الذين باتوا أكثر ميلاً لاختيار المرشح الكفوء القائم على البرنامج لا على الانتماءات الضيقة.

أبرز التوقعات لانتخابات 2025

المؤشرات الحالية تدفع باتجاه احتمال استمرار انخفاض نسبة المشاركة، وقد تصل إلى ما دون 40%، في حال لم يتم اعتماد إصلاحات جدية في القوانين والمؤسسات المعنية. في المقابل، من المتوقع أن تحافظ القوى المدنية والمستقلة على زخمها التصاعدي، خاصة في المناطق الجنوبية والوسطى، التي شهدت احتجاجات واسعة في السنوات الأخيرة. كما أن انسحاب التيار الصدري من الانتخابات، رغم إعلانه الرسمي، قد لا يكون مطلقًا؛ إذ ثمة توقعات بإمكانية مشاركته عبر أدوات غير مباشرة أو تحالفات مموّهة.

ومن المتوقع أيضًا أن تسعى الأحزاب التقليدية إلى إعادة هيكلة تحالفاتها، بهدف احتواء التراجع المتوقع، وقد نشهد تشكيل تحالفات غير تقليدية بين أطراف كانت على خلاف، كنوع من المناورة السياسية لتأمين مواقعها داخل البرلمان المقبل. وفي ظل هذه المعطيات، تبدو انتخابات 2025 محطة مفصلية قد ترسم ملامح الديمقراطية العراقية للعقد القادم. فإذا ما توفرت إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، وضُمنت بيئة انتخابية نزيهة وآمنة، بعيدًا عن التدخلات الإقليمية، فقد تشكّل الانتخابات فرصة تاريخية لتصحيح المسار. أما في حال بقاء الأوضاع على حالها، فإن فقدان الناخب الثقة، وعزوفه المتواصل عن المشاركة، سيبقى السمة الأبرز في مستقبل العراق الانتخابي.

شاهد أيضاً

ماذا لو وجهت دعوة رسمية للشرع لحضور قمة بغداد؟

د. نبراس المعموري أعلن وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، على هامش مشاركته في مؤتمر باريس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!