
رشا مهند
في إحدى ليالي رمضان، تلقيت دعوة لحضور إفطار، وقبل أن أقرر قبولها، غمرتني أفكار كثيرة. علمت أن من بين الحضور امرأة فقدت ابنها الوحيد، شابًا في العشرين من عمره، وقبل ذلك كانت قد فقدت زوجها. لم يكن الحزن أمرًا غريبًا عليها، فقد عاشت سنواتها الأخيرة في ظلاله، لكنه لم يكسرها.
كنت مترددة في قبول الدعوة، ليس فقط بسبب الإرهاق العاطفي الذي كنت أعاني منه في ذلك الأسبوع، ولكن لأن هذه القصة ذكّرتني بمأساة شخصية أخرى قريبة منّي، مأساة خالتي التي فقدت ابنتها منذ أربعة أشهر فقط. كان الحزن ثقيلًا، وكان مواجهته أمرًا مخيفًا، لكنه كان لا مفر منه.
عندما دخلت المطعم، كان المكان يعج بأجواء رمضان، أضواء الفوانيس تزين المكان، وروائح الأطباق الرمضانية تعبق في الهواء. جلست هناك، امرأة في منتصف الخمسينات أو ربما أكبر قليلًا، ظهرها مستقيم، تحمل سيجارة في يدها، ووجهها مضيء رغم كل شيء. وعندما اقتربت منها، استقبلتني بابتسامة، ابتسامة جعلتني أشعر للحظة وكأننا وحدنا في المكان، وكأن العالم بأسره قد اختفى.
حديثها كان حياة، لا موت
تحدثت عن ابنها وكأنه لا يزال على قيد الحياة، وكأنه لم يرحل أبدًا. وصفت كيف لا يزال يملأ أيامها بحضوره، كيف تشعر بلمساته، تسمع صوته، وتشم رائحته في ثيابه. حكت عن أصدقائه، عن أحلامه، عن ضحكاته، وكأنها ترسم صورة لشاب لم يغب، بل ما زال يعيش بطريقة أخرى.
أشعلت سيجارتها مجددًا وقالت، بصوت يملؤه الإيمان العميق:
“كان من المفترض أن يموت قبلي، لأنه لو عاش بعدي، لربما لم يكن قويًا بما يكفي لمواجهة قسوة هذا العالم. كان يرى الخير في الجميع، وكان سيُخذَل مرارًا وتكرارًا.”
لكن خلف قوتها الظاهرة، كان هناك جرح أعمق، لمحات من الألم تسربت بين كلماتها عندما قالت بهدوء:
“لو كنت أنا من رحلت قبله، لكانوا قد طردوه من العائلة، لأنه كان مختلفًا.”
هذه المرأة، التي تحدّت مجتمعها عندما اعتنقت الإسلام في بيئة مسيحية قبل أكثر من 25 عامًا، لم تُكسر رغم كل ما مرت به. لم تُقصَ من عائلتها رغم اختلافها، لكنها كانت تعرف، في أعماقها، أن ابنها لم يكن ليحظى بنفس الحظ لو عاشت الأمور بطريقة أخرى.
رؤية الجمال في الحزن
كان في كلماتها قوة، لم تكن قوة من يُنكر ألمه، بل قوة من يعرفه جيدًا ويتقبله. كانت واعية تمامًا بحقيقة الحياة والموت، لكنها اختارت أن ترى الجمال حتى في الخسارة. كانت تؤمن بأنها ستلتقي ابنها مجددًا، أنه سيكون أول من يستقبلها عندما يحين موعدها.
كانت تتحدث وكأنها تحاول أن تجعل فقدانها قصة تحمل معنى، قصة تُروى لا لتثير الشفقة، بل لتُلهم من حولها. في عينيها لم يكن هناك انكسار، بل سلام. ربما كان هذا هو الاختلاف بينها وبين الآخرين: لم تكن غارقة في الحزن، بل كانت تستخدمه كمرآة ترى من خلالها الجانب الأعمق من الحياة.
عندما انتهت الليلة، عدت إلى منزلي وأنا أفكر في هذه المرأة. كيف يمكن لشخص فقد كل شيء أن يظل بهذه القوة؟ كيف يمكن للحزن أن يكون بوابة للنور بدلًا من أن يكون هاوية مظلمة؟
ربما، دون أن تدري، كانت رسالتها للعالم هي أن الحزن لا يعني النهاية، بل يمكن أن يكون بداية لإدراك أعمق للحياة. ربما كانت قصتها درسًا في الصمود، في الإيمان، في أن الحب لا يموت، بل يتخذ أشكالًا أخرى، يعيش في الذكريات، في الروائح، في الأصوات، وفي لحظات نادرة كهذه، عندما يضيء الحزن وجهًا بابتسامة حقيقية.
وربما، بعد هذا اللقاء، ستدرك هذه المرأة رسالتها الحقيقية، الرسالة التي لم تكن تعرفها بعد، لكنها كانت تكتبها بكلماتها، بصوتها، بحضورها الذي ترك أثرًا لا يُنسى.