
اسراء الجوراني
في عصرنا الذي باتت فيه التكنولوجيا تسيطر على جميع ملامحه وهي حبل النجاة الذي يربط البشر ببعضهم, فتحولت معها الشاشة الصغيرة من نافذة تطل على العالم, الى قفص الكتروني يحكم بقبضته على ضحاياه الذين معظمهم من الاناث, فيقيد ارواحهن قبل اجسادهن, ويجعلهن رهائن للخوف والقلق. الابتزاز الالكتروني ليس مجرد فعل يجرمه القانون قد يرتكبه الجاني في الخفاء, بل قد يرقى لمستوى الوباء الاجتماعي ينهش ثقة افراد المجتمع بأنفسهم اولا وبمحيطهم ثانيا, فيعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية والانسانية على وقع من الرعب والتهديد.
رغم ان جذور المجتمع العراقي ضاربة في عمق التاريخ, الا انه يجد نفسه اليوم في معركة قد ينقصها التكافؤ مع اشباح الكترونية تجيد التخفي بحثا عن فريسة للانقضاض عليها, فمع تسارع وتيرة الرقمنة التي باتت السمة البارزة لحياتنا المعاصرة والتي لا غنا عنها لاي فرد بغض النظر عن مستواه الاجتماعي, الاقتصادي, الثقافي, اصبح الافراد مكشوفين اكثر من اي وقت مضى, يحيط بهم اعداء لا يرونهم يحترفون اساليب التلاعب النفسي والتسلل الى اعماق حياتهم الخاصة. وبذلك لم يعد الابتزاز الالكتروني مجرد فعل جرمي ممكن ان ينتهي بحمل الضحية على دفع مقابل مادي او معنوي فحسب, بل تحول الى لعنة تلاحق الضحايا فتسلبهم الشعور بالأمان والعيش في دوامة القلق المستمر, فيجعل الجميع مهددين حتى وان لم يكونوا مستهدفين الان.
ولان المجتمع العراقي كما هو حال المجتمعات المحافظة بتقاليده واحكامه القاسية قد يكون هو الجلاد الحقيقي متى ما تجاوز الابتزاز الالكتروني حدوده التقليدية فيكون سلاحا ضد الشرف والكرامة الانسانية, وهنا تكمن المأساة الحقيقية في ردة فعل المجتمع الذي يدين الضحية قبل المطالبة بمعاقبة الجاني. وكم من ارواح زهقت واحلام تحطمت لان الضحية وجدت نفسها بين مطرقة الابتزاز وسندانة العار الاجتماعي؟ هنا تصبح المشكلة ليست في سوء استخدام التقنية والتكنولوجيا التي فسحت المجال لمثل هذه الجرائم, بل في بيئة زرعت الخوف في قلوب الضحايا لمواجهة هذا النوع من الجرائم فوضعت الضحية في كثير من الاحيان موضع انتقاص وانتقاد مما يدفع بالكثير ممن يتعرضن لمثل هذه الجرائم الى اختيار الصمت مهربا والعزلة ملاذا, وكأن الضحية في حرب تخوضها وحيدة بلا جيش يحميها ولا قانون ينصفها.
من هنا نجد ان مواجهة الابتزاز الالكتروني لا تكمن فقط بالتجريم فما الداعي من وجود قانون يجرم الفعل الا ان المجتمع يعاقب الضحية اجتماعيا؟ لذا تصبح هنالك ضرورة ملحة لثورة ثقافية لاعادة تعريف مفهوم الضحية وتحرير المجتمع من اغلال العار الاجتماعي, فيكون المبتز هو المجرم الوحيد دون اعذار ولا تبريرات, وتكون الضحية ليست مذنبة بغض النظر عما اقترفته من فعل. وتصبح مواجهة المبتز مسؤولية جماعية وليست فردية. مما يمكن ان يؤمن للضحية دعما اجتماعيا الى جانب الدعم القانوني.
اخيرا فان الابتزاز الالكتروني الى جانب كونه فعل يجرمه القانون الوضعي والاخلاقي والقيم والاعراف الاجتماعية فانه يمثل ايضا اختبارا اخلاقيا للمجتمع بأسره, وقيمه ومبادئه, ومدى قدرته على حماية الضعفاء, بدلا من ان يكون سلاحا يجهز عليهم, فلربما لا يمكننا صناعة مجتمع يخلو من وجود الجريمة, الا اننا نستطيع قدر الامكان ان نخلق مجتمعا لا يخاف فيه الضحية من الادانة والتشويه, ولا يجد فيه المجرم مبررات اجتماعية لممارسة افعاله