الخزف العراقيّ.. الفَنّ الذي يولد في اللهب

الخزف: هو الفن الأبسط لأنه الأكثر 

بدائية، وهو الأصعب، لأنه أكثر الفنون 

تجريداً” هربرت ريد.

الخزف فن الإنسان العراقي الأول، تعامل معه بوجد.. سقاه الماء والنار والحب، فصار الفن المقدس لحضارات ما بين النهرين . إنه يولد في اللهب، ويروى بالعاطفة، وبموسيقية الإشارة الداخلية النابعة من القلب، يتآلف شكلاً ولوناً وفكرة.الخطأ والصواب.. الانفعال والترقب، الحدس والتوقع، أنها جميعاً تؤلف عناصر عملية الإبداع في الخزف، وكي تكون هذه العملية طوع يد الخزاف، يصبح الأمر بالنسبة للفنان الحديث أشقّ معاناة وأكثر مكابدة، لأنه بدأ يبحث عن النقاء في حالة تعادل توق الإنسان للتحرر من شكلية القوالب الجاهزة.هذا هو مسار الخزف العراقي وهو يعبر الحضارات خيطاً ملوناً في ظلمات العصور. بنى المدن الرافدينية، وغالبَ الزمن حين ذابت المعادن، وتفتت الصخر، وغدت الأخشاب ملحاً، وظل أبدياً حين زالت رسوم الآلهة، لأن شفاه اللهيب منحته نعمة الخلود.حينما تصبح الأشياء الجميلة، نافذة يطل منها الفنان على العالم، تغدو الرسوم التي كانت أحلاماً ورؤى، شلالاً في ومضات القلب المشرق، وظلالاً لتلك الأشياء الجميلة المتوقعة.ولعل الخزاف العراقي القديم، حين كان يطلّ من تلك النافذة، لم يكن ليتخذ وسيطاً بين الفكرة والتأليف، لأنه كان لا يحسن استهلاك الوقت في وضع المسائل المعقدة، بل يكاد يباشر العمل الفني تلقائياً فيصنع الإناء الفخاري أو الكأس المخزف أو الدمية البديلة لتمثال الآلهة، وكأنه يمارس طقساً من طقوس العبادة.أغلب الظن، أن ذلك الخزاف الذي كان يعيش في المستوطنات العراقية خلال الألف السادسة قبل الميلاد، حين جَبَلَ من الطين ما يشبه تمثالاً لإنسان، لم يضع تخطيطاً مسبقاً لتمثاله الفخاري الصغير قبل أن يحوله إلى شكل يشبه الإنسان.تأمل أمثلة فخارية صنعت في فترات تاريخية مختلفة يقودنا إلى دلالات مختلفة :

*إناء فخاري كروي الشكل من (تل حسونة) يعود إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، هذا الإناء يبدو فجاً غير مهذب، مصنوع باليد على وجه التأكيد، لم يكن دولاب الفخار إلا مسنداً خشبياً بسيطاً لا يدور.

*آنية (تل حلف) تبدو بعكس هذا الإناء رقيق الجوانب، مزينة بالزخارف ومصنوعة باليد أيضاً، تبدو الرسوم غنية بالألوان، ثرية بالأشكال التزينية.

وتظهر بين هذه وتلك دمى من الفخار جميلة، ساذجة، وطفولية الرؤية، يقول بعض الآثاريين عنها أنها تجسيد لأمهات الآلهة، ويقول آخرون انها ليست إلاّ رموزاً للأمومة. ومن  يقرأ جدران التاريخ يجد أن البابلية منها حفظت أروع الصور للحيوانات الأسطورية وللأسود والثيران محققة بالخزف الملون. وحين ننعتها بالجمال وببساطة تبدو محض طفولية، لا يستطيع المتلقي أن يقولها أمام بوابة عشتار الشاخصة الآن في متحف “بركامون” في برلين.

إن الأسود الفخارية الرائعة التي وجدت في عاصمة الكيشيين “دور كاريكالزو” أو ما تعرف بـ “عكركوف”، كانت تمثل أوج الفن الطبيعي. في العراق ونحن نذهب صعداً في تاريخ الحضارات، أصبحت الخزفيات الملمعة بلون بني واحد، هي الغالبة، زادتها الكتابات العربية عمقاً وغنى، حين جمعت رمز الإنسان وتوقه للبحث عن حقيقة وجوده في التعبير عن متنفس الطبيعة ذاتها.

في جو متوافر الشروط، يولد لأول مرة في تاريخ هذا الفن: الخزف ذو البريق المعدني، أو خزف سامراء، فيستعيض به الموسرون عن صحائف الذهب والمعادن الثمينة، منه ما يزيّن محراب جامع القيروان، وبعض من خزف الرقة عاصمة الرشيد الثانية على الفرات الأعلى، ذلك الخزف الذي يتميز بلونه البني الغامق النادر الاستعمال، أو بلونه الأزرق مع الدهان الزجاجي المائل للخضرة، كما تميز بخطوط النسخ والكوفي، ورسومه المحوّرة للطير وزخارفه النباتية الواضحة لزهور السوسن واللوتس.

فن معماري آخر يبرز في العصر العباسي المتأخر: جدران المدرسة المستنصرية، القصر العباسي وجامع مرجان، وهي الآثار الشاخصة الباقية من العصر العباسي المتأخر . لكن تاريخ الفن في العراق يتوقف حين تمتد على صفحاته زحوف القرون الأربعة المظلمة.

إن أقدر الأفكار على الازدهار في تاريخ الإنسانية، هي تلك التي تتحول إلى أشياء جميلة، هذا ما يسجله تاريخ الفن، ولعل هذا يصدق إلى حد كبير على نشوء فن السيراميك الحديث في العراق: حين بدأت تطلعات الفنانين العراقيين تتجه للبحث عن آفاق جديدة في العمل الفني، كانت الحركة الفنية في مطلع الخمسينيات تتلمس الطريق في التعبير عن ذاتها خارج إطار الفنون التقليدية المعروفة، وهكذا وجدنا أن تلك السنوات حملت لهذه الحركة تجربة فريدة تناولت مادة لم تلمسها يد الفنان العراقي من قبل: الطين، وكانت هذه التجربة تشكل بحد ذاتها اكتشافاً، لأنها مثلت عودة الفنان العراقي إلى منابع حضارته الرافدينية.

لأول مرة في تاريخ هذه الحركة يعمد أربع من الفنانين الشباب إلى بناء فرن ناري بسيط لإنتاج السيراميك في معهد الفنون الجميلة عام 1945: زيد محمد زكي يحمل خارطة الفرن، في إطار اهتماماته الفنية الخاصة التي كان يمارسها أثناء دراسته في إنكلترا، قحطان المدفعي يضع ثقافته المعمارية الطازجة في التعاون لبناء الفرن. جواد سليم وفائق حسن يشرفان على تأسيس العمارة الطابوقية الصغيرة التي حملت كل وجوه المستقبل وتوقعاته وولاداته الإبداعية.

حين أوقدت النار في الفرن كان طلبة معهد الفنون الجميلة يتحلقون حوله وقلوبهم تجب بشكل غير اعتيادي. كانت هذه التجربة الأولية، توطئة للدخول في مرحلة التأسيس، إذ شرعت إدارة المعهد بتأسيس فرع جديد لدراسة السيراميك يضاف إلى فرعي الرسم والنحت عام 1955، وبدأ العمل اعتماداً على فرن كهربائي متوسط بتوجيه الخزّاف الإنكليزي “أيان أولد” الذي انتدب لتدريس هذه المادة يومذاك.

ثم انتدب عام 1957 الخزاف الشاب “فالنتينوس” لإدارة فرع السيراميك في معهد الفنون الجميلة، وهو فنان قبرصي المولد، استهوته الحياة في العراق فاكتسب الجنسية العراقية، استمر في العمل حتى نهاية خدمته عام 1968 أستاذاً في المعهد وأكاديمية الفنون الجميلة.

كان تأثير فالنتينوس كبيراً في الخزف العراقي، هنا لابد لنا أن نتساءل: ما هي لغة هذا الفن الآن، وما قواعده، وقوانينه الخاصة؟ وكيف يستطيع الفنان العراقي أن ينهض بهذه اللغة فيجعلها لغة عصرية متميزة، من دون التضحية بالنبض الحضاري الذي يوصله حياتياً بشخصيته الوطنية؟

ليس غريباً أن يكون عمر التجربة قصيراً، بل الأهم أن يكون عمر النضج أكبر. إن هذا يعود في اعتقادنا إلى يقظة الحس التراثي الكامن في لاوعي الفنان العراقي، بعد أن تهيأت له أسباب العمل، وتوفرت الخامات ووسائل البحث والحرية الكاملة لترسيخ عملية الإبداع.

 هكذا وضع الفنان في أوليات مشاريعه وتجاربه، مهمة البحث في العملية التشكيلية في كل أبعادها الفنية والتعبيرية، واستلهام الحضارات المتراكمة على أرضه، كما قادته المعاصرة إلى العالم الغريب الزاخر من حوله، وبالأخص إلى التيارات العالمية، فاستطاع في حدود تجربته الذاتية والعامّة أن يتمثل ما جاءت به تلك التيارات، فلم يخضع لتأثيراتها، كما لم تحمله على التقليد فيسقط في هاوية المماثلة الرديئة.

الأصالة والابتكار في فن الخزف العراقي، يعودان في تقديرنا، إلى أن الفن الحقيقي إنما ينبع من الأرض التي يغور في أعماقها الفنان باحثاً عن صلصالها العجيب الطيب ليبني تشكيلاته الفنية.  

أعمال الخزافين العراقيين اليوم أصبحت ضمن دائرة النظر إلى الأشياء الجميلة الملهمة. وفي الواقع استطاع عدد من الفنانين وفي مقدمتهم سعد شاكر وعبلة العزاوي وغازي السعودي وسهام السعودي وشنيار عبد الله ونهى الراضي وطارق إبراهيم ومحمد العريبي وتركي حسين وماهر حسين، ومقبل الزهاوي  وثامر الخفاجي وقاسم حمزة وأكرم ناجي ومؤيد نعمة وساجدة المشايخي وحيدر رؤوف. هؤلاء شكلوا جيلاً أكدّ حضوره الفني النوعي والجمالي على مستوى الأساليب والتقنيات. وعبر تجاربهم المتنوعة شهدت الحركة الزخرفية في العراق حالة ازدهار لا تقل أهمية عن الرسم والنحت.

شاهد أيضاً

٤٥ ألف كتاب مجاني بأكبر مهرجان للقراءة في العراق

انطلاق الموسم ١١ لمهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ” بحضور أكثر من ٣ آلاف شخص شهدت …

error: Content is protected !!