بين الصيدلة التقليدية وحب الاختراع.. عراقي ينتقل من فناء منزله للعالم بابتكاراته

آية منصور 

“مرّت طفولتي وشبابي المبكر بواحدة من أصعب المراحل في تاريخ العراق، حيث كانت البلاد تعيش انتقالاً من حرب إلى أخرى، مع سحق اقتصادي للطبقة الوسطى التي تنتمي إليها عائلتي، كان هناك تناقض مرير بين موهبتي في الفن، من رسم ونحت، وبين واقع لا يقدّر الفن ولا يمتلك رفاهية تقديره”. 

بدلاً من أن أصبح رساماً أو نحاتاً، كما كان الجميع يطلق عليّ حتى مرحلة الجامعة، وجدت نفسي مصمماً ومخترعاً، حيث دفعتني الحاجة إلى إضافة الجدوى الاقتصادية للفن للاستجابة للواقع، حفزت موهبة أعمق وهي التصميم الصناعي ومحاكاة الآلات ذهنياً ولأنني أردت لمنحوتاتي أن تكون أكثر حياة فجعلتها روبوتات متحركة. 

يبدو المبتكر ومؤسس أول مختبر للعلوم في العراق نورس عارف، سعيداً وممتناً لقدرته على الاستمرار بتقديم العلم، ولا يمكنه تذكر أول الابتكارات التي منحها لبلاده وللآخرين، لأن الأمر فطري منذ الولادة، لكن لحظته المفصلية كانت، عن طريق تحوير الألعاب وإعادة تصميمها منذ الطفولة والمراهقة، إذ تمكن من تصميم وتصنيع أول مسدس آلي عام 1998. يتحدث لوكالة الأنباء العراقية.

“مختبر العلوم”

هناك عدة أفكار ممكن أن تصنف كبراءات اختراع رغم أن نورس لم يقم بتسجيلها، متعلقة بمجال الروبوت خصوصا والميكانيك عموما، ومنها تصميم “المفاصل المتزامنة” Synchronized Joints (صممه بعمر مبكر في عام 1994) وهو تصميم شديد المتانة والقوة لأطراف صناعية روبوتية تماثل حجم وشكل اليد البشرية ولكنها تتجاوز ما مطروح في سوق الأطراف الصناعية العالمية متانة وقوة، حيث أن تصميمها متراص وصلب ويخلو من المسننات الصغيرة أو الأوتار السلكية التي تكون عادة نقطة ضعف وانهيار التصميم عند تكسرها، جاء هذا الاختراع كرغبة لتصميم طرف صناعي شديد القوة يتجاوز وظيفة المظهر والحركة الى الوظيفة الفعالة لذوي الاحتياجات الخاصة واستعادة الحياة ونفس التصميم ممكن لروبوتات بشرية كفوءة.

تم عرض هذا التصميم في محافل المبتكرين العالمية في هولندا وألمانيا وأمريكا. كما يوضح بحديثه لوكالة الأنباء العراقية (واع). 

كان نورس يملك ورشة وأدوات ومساحة عمل في الممر الخلفي لبيت العائلة بمحافظة البصرة مستخدما أدوات الأخوال وعُددهم المخزونة هناك، وفي مرحلة الجامعة كانت غرفة القسم الداخلي في الموصل غير نمطية ولا تمت لدراسة الصيدلة -حيث أتم شهادته- بصلة واضحة حيث غلبت عليها الفوضى الهندسية ومصغرات الطائرات والصواريخ، ولاحقا استثمر المساحة الجانبية لمنزله الخاص وباستخدام كرفانات متنقلة من بقايا الحروب كورشة متكاملة ومجهزة نسبيا ليتمكن من مشاركتها مع مجتمعه المحلي ولتصبح أول مساحة مبتكرين (Makerspace) عراقية مقامة بمكان محدد وبتجهيز محدد، ويكون مركز ابتكار ودعم للمصممين والمخترعين والمبرمجين والطلبة والباحثين ولأصحاب الأفكار الريادية ويدعم القطاع الخاص العراقي الصناعي بجزئية البحث والتطوير ليسد هذه الثغرة لأن الغالب على القطاع الخاص الصناعي هو الإنتاج أكثر من الابتكار بحلول وتصاميم عراقية، أصبح اسم المكان هو مخيم العلوم.

“تواصلنا مع العديد من نظرائنا العالميين بوقت مبكر نسبيا وبدأت مشاركاتنا العالمية من خلال السفر الى ألمانيا وهولندا والولايات المتحدة ولبنان ومصر وتونس وسنغافورة وسويسرا والمكسيك ودول أخرى، وأحد مشاريعنا هو الشراكة الحصرية لبناء ودعم المنتخب الوطني العراقي للروبوتات في أولمبياد الروبوتات العالمية (FIRST Global Challenge) للفئة العمرية من 14 إلى 18 سنة، والكثير من المشاركات في المحافل العلمية والابتكارية الدولية.

وقدمنا كثيراً من الحلول في مختلف الأوقات ومنها أيام الجائحة من خلال ابتكار طريقة سريعة جدا في إنتاج الأقنعة الواقية الشفافة للكوادر الطبية والعاملين في ظروف الحجر حيث أنتجنا في أول وجبة 13,000 قناع بوقت قياسي بالتعاون مع القطاع الخاص العراقي والأكاديميين أثناء الإغلاق العام وتم توثيق هذا النشاط في كتاب “التصميم للفايروس Viral Design” المطبوع في إسبانيا حيث أفردت صفحتين للتجربة العراقية يقول نورس لوكالة الأنباء العراقية (واع). 

وذكر نشاط مخيم العلوم في كتاب “هزيمة الكراهية Defeat Hate” الذي يوثق أنشطة بناء المجتمع بالعلوم والتقنيات للشباب في أزمنة الحروب والصراعات الداخلية وهذا الكتاب طبع في الولايات المتحدة.

ابتكارات لا تنتهي 

“مخيم العلوم اليوم معروف عالمياً على أنه مساحة مبتكرين MakerSpace ومختبر تصنيع رقمي Fab Lab (Fabrication Laboratory)وفق تعريف معهد ماساشوستس لمختبرات التصنيع الرقمي التي تشترط بنية تحتية من الآلات والمختبرات والأجهزة ودعمها للتعليم في مجال العلوم التطبيقية (STEM)، ومسجل في العراق بهيكل مركب من منظمة مجتمع مدني ومعمل روبوتات مسجل في اتحاد الصناعات العراقي وهذا المعمل ينتج اليوم روبوت تعليمي مصمم لسد الفجوة في العملية التعليمية من خلال توفير تدريب تطبيقي عملي للميكانيك الإلكترونيك والبرمجة الصورية الثورية لتغطي كل جوانب علم الروبوتات  وبوقت قياسي مع خدمات تدريب ودعم تقني ودليل مستخدم باللغة العربية وفريق مدرب ليوفر هذه الخدمات في جغرافيا العراق غالبيته من النساء المشتغلات في مجال التكنولوجيا والتعليم الرقمي والشباب اليافع من الفريق الوطني العراقي للروبوتات في الأولمبياد العالمية. يوضح عارف لوكالة الأنباء العراقية (واع).

ولفت نورس عارف بحديثه الى، أن “مخيم العلوم يستجيب للمتطلبات التقنية للقطاع الخاص الصناعي بتوفير خدمات الهندسة العكسية والتصاميم الابتكارية وتوفير الحلول لقطع الغيار النادرة أو المحورة، ويقدم قيمتين أساسيتين لمرتاديه محليا في العراق، أولهما ثقافة مجتمع المبتكرين العالمية  الصديقة والمستوعبة لمتطلبات الابتكار والبحث والتطوير وتكرار المحاولات المتعددة لإنتاج النماذج الأولية من الابتكارات، ثم في البنى التحتية والأجهزة المتعددة الاستخدامات والمختبرات والآلات من طابعات ثلاثية الأبعاد وورش وأجهزة تصنيع رقمي رباعية الأبعاد ومختبرات إلكترونيات وبرمجيات  صناعية وابتكار متنوعة.

وأضاف: “يرتاد ويضم مخيم العلوم مجموعة متنوعة من المصممين والمبتكرين والمبرمجين والفنانين والمهندسين ورواد الأعمال والباحثين والطلبة لمشاريع تخرجهم أو لتنمية قدراتهم لتكون متلائمة مع متطلبات سوق العمل.

وكل دائرة اجتماعية من هذه الدوائر تتنوع بين المبتدئين والمحترفين الى درجة ان يكونوا مدربين في هذا المجال، لهذا فمخيم العلوم اليوم يرتبط بقاعدة جماهيرية كفوءة ومتنوعة وشغوفة تمتد محليا في البصرة والعراق ورقميا لها عمق دولي متعلق بشبكة واسعة من نظرائنا في كل دول العالم حيث ان مخيم العلوم عضو في “مجمع الابتكار العالمي Global Innovation Gathering (GIG)” وأنا شخصيا أحد الأعضاء الـ 12 في مجلس الإشراف في مجمع الابتكار العالمي المسجل في برلين”.

“إصلاح الصورة النمطية”

 مخيم العلوم اليوم مستدام مائياً حيث يولد أكثر من 250 لتراً في اليوم من الهواء، ووصل بأبحاث الطاقة الشمسية إلى صهر الحديد بطاقة الشمس بطريقة أكثر كفاءة من الخلايا الشمسية النمطية، والكثير من الأبحاث والابتكارات في مجال البيئة ومعاكسة التغير المناخي، كما تم تمثيل العراق في أولمبياد الروبوتات العالمية عن طريق مختبر العلوم.

واشارعارف الى، إنها “تجربة فريدة ومتنوعة ومتجددة كل عام حيث ان المسابقة تقام في بلد جديد، نتعرف على ثقافات جديدة وننشر ثقافتنا كعراقيين ونعكس العمق الحضاري العراقي في مجال الابتكار ونصلح ما نستطيع من الصورة النمطية الإعلامية عن العراق والشرق الأوسط المتعلقة بالحروب والصراعات ونحاول أن نوصل رسالة عن دور العراق في محاربة الإرهاب نيابة عن العالم لأن المحفل دولي وتشارك فيه دول وفرق أكثر من الفرق المشاركة في الأولمبياد الرياضي”.

وتمكن فريق مختبر العلوم العراقي في عام 2018 أن يحرز المركز الـ 26 على العالم في المكسيك وحاز على جوائز متعددة متعلقة في كفاءة التصميم للروبوت والسلامة والفريق وحصل نورس عارف كمدرب للفريق على جائزة المدرب المتميز لعامين.

وتدور سيناريوهات ألعاب أولمبياد الروبوتات حول التغير المناخي وزيادة الوعي البيئي للأجيال من خلال تكوين فرق من روبوتات الدول لتحل مشكلة بيئية محددة مثل الماء والطاقة والمعدل الكربوني والغذاء، واليوم يستعد الفريق العراقي للمشاركة في اليونان.

“أطمح لأن يكون مخيم العلوم متاحاً في كل محافظات العراق وأن تعمم تجربته في دعم القطاع الخاص بالابتكار وأثره في تغيير قناعة الشباب من انتظار التعيين الحكومي الى استثمار الذات في القطاع الخاص، وخصوصاً في مجال التكنولوجيا ولدينا الكثير لنقدمه بدءاً من أكاديميات الروبوت والذكاء الاصطناعي”. يقول نورس.

ويعمل اليوم مختبر العلوم على أبحاث لإنتاج وحدات بناء وأرضيات تعبيد الطرق بتدوير أصعب أنواع البلاستيك PET مع الرمل العراقي بطرق ومضافات محلية رخيصة تجعل من العراق قصة نجاح في مجال إعادة التدوير وطرق النقل المستدامة.

شاهد أيضاً

الأنبار.. شح المياه “يفتك” بأحد أهم المشاريع السياحية العراقية ويُشرّد آلاف العائلات

تعاني أكثر من 10 آلاف عائلة في منطقتي العنكور والمجر في قضاء الحبانية بمحافظة الأنبار …

error: Content is protected !!