رؤية جيوسياسية لعلم الرياضيات

احمد المسلماني

 كان اسحق نيوتن عالماً عملاقاً، لكنه كان غريب الأطوار، وكان عدد الطلاب في فصله الدراسي في كامبريدج قليلاً للغاية، وفي بعض الأحيان كان العدد لا يتجاوز الصفر. قدّم نيوتن للبشرية كتابه الشهير «مبادئ الرياضيات» الذي يُعد واحداً من أهم ما أُنتج في تاريخ العلم، ولقد كانت نظريته في الجاذبية دافعاً رئيسياً في تطور العلم وصولاً إلى غزو الفضاء.

في القرن التاسع عشر سادت الهندسة المدنية، وفي القرن العشرين سادت الهندسة الكهربائية، وفي القرن الحادي والعشرين تسود اليوم هندسة الذكاء الاصطناعي حيث عصر الروبوتات والبيانات. إن الرياضيات هي أساس التطور العملاق في الصناعات العسكرية والمدنية، ذلك أن صناعات وحروب القوات الجوية والدفاع الجوي والقوات البحرية، والأقسام العديدة للقوات البرية.. فضلاً عن أسلحة الفضاء.. إنما تنهض جميعاً على علم الرياضيات. ومن الأقوال الشهيرة في تحليل نتائج الحرب العالمية الثانية: لقد فاز علماء الرياضيات بالحرب. ليست الرياضيات وحدها بالتأكيد فعلوم الفيزياء والكيمياء والتطور الضخم في علوم الطب والبيولوجيا هي كلها أسس حضارتنا المعاصرة.. في جوانبها المضيئة والمظلمة معاً.

إن مركزية علم الرياضيات في حضارتنا لا تتوافق مع كراهية ذلك العلم حول العالم، ذلك أن الخوف من الرياضيات أو «رهاب الرياضيات»، هو أمرٌ شائع في العديد من الدول، ويكاد ينقسم البشر إلى نوعين: الذين يحبّون الرياضيات والذين لا يحبونها، ويُطلق البعض على النوع الأول من البشر «شعب الرياضيات – Math People». في كتابها «هل الرياضيات واقعية؟» تذهب المؤلفة «إيوجينا تشينغ» إلى أن الإنسان يبدأ حياته بحبّ الرياضيات، ثم يذهب في المرحلة العمرية التالية إلى الخوف منها، وقد يستمر ذلك الخوف أو يعود لحبها كما كان في الخامسة من عُمره. وتنقل الكاتبة ندي حطيط عن المؤلفة قولها: إن الأساتذة والمناهج وطرق التدريس التلقينية، وغير الشارحة لفلسفة العلم وإفاداته وأهمية تطبيقاته.. هو ما ينقل الطفل من الحب إلى الخوف.

إن ما جاء في هذا الكتاب يدفعنا للعمل على إنقاذ ذلك العلم من دائرة الخوف، وإعادة النظر في مناهج الرياضيات وتدريسها. ومن المناسب أن يصل الأمر إلى حملات وطنية لمكافحة الخوف من الرياضيات، والإفادة من تجارب أخرى في هذا الصدد كالمجلس الروسي للرياضيات الذي تأسس لهذا الغرض. إن علم الرياضيات هو أمن قومي، وهو معيار التقدم والتخلف. وإن اتساع ساحة الحروب هبوطاً إلى أعماق المحيطات، وصعوداً إلى الغلاف الجوى وخارجه، والسباق المروّع في أسلحة الليزر، وسيل الطائرات والمركبات والغواصات المسيّرة.. هي كلها تجعل من علم الرياضيات علماً جيوسياسي النتائج بامتياز. إنه ليس مجرد معادلات مبهجة ورموز غامضة.. أو طلاسم جامدة، بل هو علم النهضة وعلم التفوق. إن الرياضة البدنية هي أمر مهم لصحة الإنسان، كما أن الترفيه الرياضي ومنافسات الأندية والمنتخبات هي أمور شيّقة ومثيرة.. لكن هذا لا يجب أن يجعل الأضواء أسيرة الرياضة من دون الرياضيات. لو تم تخصيص موازنات للرياضيات كالمخصصة للرياضة.. لتغيّر الكثير.

ولو أصبح لدينا علماء رياضيات يحوزون جوائز فيلدز لكان أفضل من الحصول على كأس العالم عشر مرات. روعة الفوز في الرياضة لا تستغرق ساعات، وروعة الفوز في الرياضيات قد تستغرق مائة عام. الرياضة متعة والرياضيات نهضة.. الرياضة تسلية والرياضيات حياة.

شاهد أيضاً

العراق وطن القلوب والحضارة

اللواء الدكتورسعد معن الموسوي أنا دائمًا ما أبتعد عن الحديث في السياسة وعراكها، لكن عندما …

error: Content is protected !!