الرأسمالية المهذبة

احمد المسلماني

لماذا يملك رأسماليون غير مثقفين كل شيء، ولا يملك العلماء والفلاسفة أي شيء؟ وكيف يمتلك أصحاب المعرفة المحدودة كلَّ هذه الثروات ولا يحوز علماء فيزياء الكمّ سوى على رواتبهم؟
ثمّة استثناءات بالطبع، فهناك أثرياء كبار واسعو الثقافة غزيرو المعرفة، وهناك علماء كبار يحوزون ثروات ضخمة ويعيشون في رغدٍ تام. لكن هذه الاستثناءات لا تلغي ما هو ظاهر للناس من سوء توزيع المعرفة والثروة.
في كتابه «العقل في مقابل المال.. الحرب بين المثقفين والرأسمالية»، يعرض «آلان كاهان» لتلك المفارقة بين العقل والمال، العلم والدولار.. ما كان يملكه ألبرت أينشتاين وما يملكه جيف بيزوس.
لقد تضاعفت أبعاد تلك المفارقة مع انتقال الغرب، ووراءه الشرق.. من «الرأسمالية الكلاسيكية» إلى زمن رونالد ريجان ومارجريت تاتشر «النيوليبرالي»، ثم إلى زمن بيل جيتس وإيلون ماسك حيث «الرأسمالية الرقمية».
كان الرأسماليون القدامى يبذلون جهوداً ضخمة من أجل تحقيق الأرباح، لكن الرأسماليين الجُدد يبذلون القليل من الجهد ويربحون الكثير جداً من المال، وليس الجهد في واقع الحال سوى لمحة ابتكارية هنا وقفزة ابتكارية هناك.
في لا زمن تقريباً ينتقل «الرأسمالي الرقمي» من البحث عن عمل إلى البحث عن كوكب، ومن قروض بآلاف الدولارات إلى ثروة بعشرات المليارات!
لا يفضّل بعض المثقفين وصف «الرأسمالية الرقمية» التي نشأت من عصر الإنترنت، وتجلّت معالمها من مايكروسوفت إلى أمازون، ومن على بابا إلى أوبر.. ويفضلون وصف «الإقطاع الرقمي»، فالأمر أقرب إلى الإقطاع، حيث لا يفعل الإقطاعي شيئاً، وإنما يوظف العمّالَ ويأتيه الريع كل يوم، وعلى ذلك فإن إيلون ماسك ومارك زوكربيرج وجاك ما.. ليسوا رأسماليين بل إقطاعيين، لكنهم إقطاعيون رقميون لا يمتلكون أرضاً زراعية بل يديرون أملاكاً افتراضية.
لقد أدت «النيوليبرالية»، ومن بعدها «الرأسمالية الرقمية» أو «الإقطاع الرقمي»، إلى ظهور وجه إنساني أكثر قسوةً من أي وقت مضى، فالإقطاعيون الجُدد يديرون الكثيرَ من السياسة والأكثر من الإعلام، إنهم وهم يتنافسون للحصول على لقب «أول تريليونير» إنما يخلّفون وراءَهم معدلات متصاعدة من الفقر والجوع.. حتى لقد أصبح عالمنا يضم نخبة عليا تمتلك ما لم يمتلكه البشر من قبل، وقاعدة دنيا تتخبط في العوز والحاجة وسوء التغذية. إنها المسافة بين أعداد الجوعى في تقارير منظمة «أوكسفام» وترتيب الأثرياء في قوائم مجلة «فوربس».
لا يجب أن تكون المسافة بين «عالم فوربس» و«عالم أوكسفام» على هذا النحو من الاتساع، وإنما يجب الترميم المتدرج لتلك المسافة الموحشة بين الذين يملكون والذين لا يأكلون.
لقد حسم العالم المعاصر صراع الاشتراكية والرأسمالية لصالح الرأسمالية، ليس لأنها أيديولوجيا الغرب، بل لأنها أيضاً الأيديولوجيا الاقتصادية في الصين وروسيا والهند. لكن المبادئ التي تأسست لأجلها فلسفة المساواة يجب ألاّ تزول، فالعدالة – ببساطة – هي قيمة إنسانية عليا، من قبل الاشتراكية ومن بعدها.
يجب أن تكون قيم العدالة والتضامن أداة ضغط أخلاقي على الرأسمالية في حقبتها الرقمية.
إن الرأسمالية هي قدر العالم في كل المدى المنظور، وكل ما يحتاجه العالم هو الانتقال من «الرأسمالية المتوحشة» إلى «الرأسمالية المهذبة».
*كاتب مصري

شاهد أيضاً

ازمة لبنان تعبر خطوط الإنذار

العاصمة بيروت تتعرض للقصف الجوي من العدوان الإسرائيلي ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى َوتهجير …

error: Content is protected !!