سـمير النشـمي
عنوان هذا المثل يرجع زمنه إلى فترة ما قبل الإسلام ـ وله قصة طريفة تدور أحداثها بين عدد من نساء تلك الفترة ، وكانت كل واحدة منهنّ تذكر سجايا الرجل الحميدة والفاضلة من وجهة نظرها هي ، وفي النهاية يذهبن إلى إحدى الكاهنات ، ويحكين لها ما دار بينهن من حديث حول صفات الرجال ، فما كان من الكاهنة إلّا أن قالت لهنَّ كل فتاة بأبيها معجبة ، ولا أريد في خوص تفاصيل تلك القصة الطريفة كما روتها كتب الأمثال ،علماً بأنّ هذا المثل مازال سارياًبنفس التأثير إنْ لم نقل أكثر في وقتنا الحاضر ، فكل فتاة ترى أنّ أباها مثالاً قائماً بذاته لا شبيه له بين الرجال ولا مثيل يدانيه بين الآباء أبداً..
ولكن ما يهمني هنا هو مضمون المثل وعمقه في التعبير عن بعض الأبعاد الاجتماعية التي يحبها الإنسان فيمن يعاشره وخاصة المرأة ، فحب الفتاة لأبيها والإعجاب به لم يأتِ من فراغ ، بل هي قد لمست فيه حبه لها ومدارته عطفه عليها وتلبية حاجاتها والدفاع عنها وعدم إلحاق أي أذىً بها ، فهي حينما تولد ستشب في حضن أبويها ، وسترى منهما كل حب وعطف وحنان ، لذلك هي تتعلق بالأب في بدايات حياتها أكثر من تعلقها بالأم ، فهو المنفق على أسرته وهو الحامي لها وهو الذي يحمل مبادئاً وقيماً يفتخر بها ، وله سلوك يفرض على الآخرين احترامه من خلاله ، فهذه الصفات تجعل من الأب مثالاً ومن وجهة نظر الفتاة ، ويجب أن يقتدى به وكلما كان الأب نزيهاًومثقفاً فهو سيرسم السعادة لبيته وعائلته وأبنائه ، وخاصة الفتيات منهنّ وقد لا تظهر أهمية الصفات الكريمة التي يتحلى بها في وجوده على قيد الحياة ، بل هي قد تظهر بشكل جلي وواضح بعد فقده ، فعندما تحدث مقارنات بين سلوك هذا الأب وآباء الآخرين ، فإن هذا السلوك عندهن سيكون متبايناً وغير متطابق مع سلوك والد الفتاة الأخرى ، فهي تحكم على سلوك أبيها أنه أفضل سلوك على الإطلاق دون أن تمس سلوك الآباء الآخرين بسوء ..
وما نعلمه عن السلوك ، هو مجموع القيم والعادات والتقاليد السائدة في ذلك المجتمع في فترة من الفترات ، ونعلم أيضاً أنّ البيئات تختلف في قيمها وعاداتها وتقاليدها فما يصلح في بيئة ما، قد لا يصلح في بيئة أخرى ، فمثلاً سكان الحواضر والمدن والقريبين من مصادر المياة يختلفون عمن
يسكنون الصحراء الجرداء البعيدة عن الحواضر ، وهؤلاء ، يختلفون عن سكان مَن يعيشون في في الجبال والأرضي الوعرة ، ومن يعيش قريبا من البحار أيضاً له سلوكه وعاداته التي تؤثر عليه
بشكل وآخر ..
إذن هذا الاختلاف هو الذي يؤثر على سلوك الأبناء وخاصة الفتيات منهم ، إذ هو يضع بصماته في تكوينهن الأولي ، ولكنّ تأثير الأم بعد ذلك سيكون هو الأشد والأكثر تأثيراً على الفتيات في التعامل اليومي مع الاحداث والمتغيرات ، ولكن يبقى الأب رمزاً خالداً تفتخر به الفتاة ،ولكن لو كان سلوك الأب مغايراً للسلوك المتعارف عليه في بيئته ، كأن يكون قاسياً في تعامله اللفظي ، معنفاً لكل من حوله ، ولا يرتدع عن البطش بأبنائه ، بسبب وبدون سبب ، ويكون كثير التذمر ، وكثير الإبتعاد عن بيته ، وقد يصدف عنه أنه ينحرف عن السلوك القويم بالغش والتزوير والسرقة والنصب والاحتيال والمتاجرة بالممنوعات ، وما شابه من السلوك الذي يعتبر خارجاً عن السلوك السوي ، ويعاقب عليه القانون ، فحينما يكون الأب بهذا السلوك المنحرف ، ماذا سيكون ردّ الفعل على تلك الفتاة ، فهل هي ستنكسر معنوياً وتخيب آمالها بأبيها ، وبماذا ستواجه بقية الفتيات عن أبيها ، خاصة عندما تجدهن يتفاخرن بآبائهن لما يتمتعون به من سلوك حميد ، فهذه الفتاة بماذا ستتفاخر عن أبيها الذي ظهر على حقيقته وخيّب آمالها ، إنها ستكون منكسرة في أعاقها ، ولم تعد ترى هكذا مجالس مفيدة أو نافعة ، فسينحسر وجودها وتبقى وحيدة ، تخفي سر أبيها ولم تعد به معجبة كما جاء في المثل ..
ولنفترض أنّ تلك الفتاة لم تكن مدركة لما يمارسه الأب من سلوك منحرفاً أو شاذاً ، وتعتبره سلوكاً عادياً لا شائبة فيه ، أليست هي ستكون متأثرة بهومقلدة له ، وحين تشبّ وتكبر ستكون حاملة لبذور الإنحراف دون أنْ تدري ، وبالتالي سينطبق عليها المثل الذي يقول ( هذا ما جناه عليّ أبي ولم أجنِ على أحدٍ مِن الناس ) ويصبح السلوك المنحرف متوارثاً عن سلوك ذلك الأب ، ولو أنّ حالة الإنحراف هذه ليست حالة فردية بل هي حالة شبه جماعية ، الا يعني هذا أنّ الخروج عن السلوك المنحرف إلى السلوك القويم هو إنحراف عن سلوك الجماعة المنحرفة ، ولنا أمثلة في التأريخ القديم كثيرة ، ولكن سنأخذ مثالاً واحداً أشار إليه القرآن الكريم ، وهم قوم لوط كانوا جميعاً منحرفين رجالاً ونساءً وبيت لوط ( ع ) هو البيت الوحيد الذي يتميز بالإعتدال والنظافة تقول الآية الكريمة [ وما كانَ جواب قومه إلّا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون ]( الأعرف/ الآية 82 ) إذن الجماعة قد تعارفوا على الإنحراف وأعتبروه حالة طبيعية ، بينما النبي لوط لوحده مع عائلته يعتبرونه شاذا عنهم بل منحرفاً عن سلوكهم العام الذي تعارفوا عليه فلا يوجد من الرجال مَن يعترض على النساء الشاذات ، ولا النساء يعترضن على الرجال الشاذين ، سواء كانوا أزواجهم أو أبناهم أو آباءهم ، فمجتمع منحرف بهذا الشكل ماذا تتوقع من أبنائهم مستقبلاً فالشذوذ حتماً هو مصيرهم جميعاً ، ومع ذلك وعلى الرغم من الإنحراف والشذوذ ، ربما ستبقى بعض الفتيات يتفاخرن بآبائهن من خلال قوة الإنحراف ومقدار تأثيره على الآخرين ، لأنهن نشأن تحت أجنحة الإنحراف ورضعنه من أثداء الأمهات اللواتي هنّ أيضاً توارثن الإنحراف من البيئة ذاتها ، وكل جيل آتٍ سيزداد في إنحرافه ، تقليداً للسابقين وفي ذات الوقت لا يعتبرونه إنحرافاً ، بل تطوراً وتقدماً ، وربما يبدعون فيه بإيجاد صور وأشكال من السلوك المنحرف الذي لم يكن معروفاً في زمن الآباء والاجداد ، بل لم يألفوه من قبل ، ويُصبح الاحفاد من المبدعين ومن أصحاب الحداثة في إنحرافاتهم ..! إذن حالة الاعجاب هذه قد تكون من صورها ونتائجها ما تحدثنا به آنفاً ، وأسال الله تعالى السلامة والاستقامة للجميع من أجل أنْ تبقى حالة الإعجاب مضيئة وزاهية ليس في نظر الفتيات فقط ، بل في نظر المجتمع كله ..!