د. محمد وليد صالح
أكاديمي وكاتب عراقي
يغدو واحداً من أكثر المفاهيم جدوى وجدارة بالمقاربة العلمية المتخصصة هو التغيير الاجتماعي والسياسي في الدول الموصوفة بالتأزم والفشل والهشاشة بسبب عدم الاستقرار، وهذا ينفتح على احتمالات غير محدودة في خلفياتها النظرية والتطبيقية، ولمنظورات نخبة من الباحثين عن الأسباب والمناخات المحركة للتغيير وكيفية صيرورته والمسارات التي اتخذها، ومخرجات متنوعة الاحتمالات ناجمة عنها ومآلات الدول المأزومة ومنها العراق، عبر النسخة الخامسة لمؤتمر الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي بالتعاون مع جمعية الأمل العراقية للإسهام في بلورة تصورات مفاهيمية ونماذج نظرية تتدرج هرمياً، من الدور الفردي للفاعلين في إحداث التغيير أو العزوف عنه وصولاً إلى البنى المجتمعية التراكمية المنتجة أو الكابحة له سعياً لوضع الحلول الناجعة والمناسبة لإصلاح الواقع الاجتماعي المأزوم وتنميته بالمعرفة الموضوعية نظرياً ومنهجياً.
إنَّ من عوامل نشأة الاستبداد في المجتمع العراقي هي التأريخ والجغرافية ومظاهر التغيير منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحداثة الأدوات والأفكار بعد الاتصال بالغرب وتجليات بنية الاستبداد منها القبيلة والسلطة السياسية والدينية ونظم التعليم والكيانات السياسية وآثاره في شخصية الفرد ونسيج المجتمع، فضلاً عن سمات الصدمة الثقافية كحالة من التغيير الاجتماعي المفاجئ والشامل والأساسي مما يولد الصراع الدائم بين أقطاب السلطة والمجتمع، فالتغيير السياسي حول الديمقراطية بزواياه الثلاث “نحوها وضمنها وعنها” غالباً ما تشعر به الشعوب وخلاصها من الطغيان والأنظمة الفاشلة الأخرى.
وبتقديم الخطاب الإسلامي تصوراً تحليلياً عما يجري في بلدان عدة لاتعيش استقراراً من طريق جدالات التغيير بخطابين أحدهما يسمى بـ”الإسلام الأيديولوجي” والثاني “الإسلام الصوفي” ومنظوراتهما الموسعة عن “الأيديولوجيا الدينية والذاكرة الدينية المستمرة والدين السياسي”، أمام التحوّلات التي تمر بها الساحة الإيرانية التي يمكن أن تكون أحد عوامل التغيير في ظل تداعيات العقوبات الغربية بسبب برنامجها النووي وتزايد الضغوطات على مجالات حياة الشعب المختلفة.
لكن أين موقع الفرد في عملية التغيير كمنتجات جمعية من تشكيل الجماعات والحركات والبنيات الاجتماعية، عبر مدخل جينالوجي لفكرة البطولة الاجتماعية المطروحة في المشاريع العالمية، بالوقت الذي يفقد أي نظام سياسي ثقة الشعب ستجده منعزلاً عن دعم القوى الاجتماعية ومعرضاً للحركات الاحتجاجية من الجماعات المحرومة، وفي هذا السياق فإن المنظومات السياسية التي لاتشبع حاجات أفراد شعبها سواء كان ذلك نفسياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً تزيد من شعور المواطن بالظلم والاستغلال والرغبة في التمرد على النظام السياسي لإجراء التغيير، وتعمل العلاقات الهرمية بين الجماعات على إيجاد توازن تمايزي بين نوعين من المؤسسات الاجتماعية منها المؤسسات المعززة للتسلسل الهرمي “المؤسسات المالية الكبرى والقطاعات الرئيسة التابعة إلى نظام العدالة الجنائية” والمؤسسات المخففة للتسلسل الهرمي “منظمات الرعاية الاجتماعية ومنظمات الحقوق المدنية والمدافعة عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان والجمعيات الخيرية”.
إذ نجد في الحقل السياسي كلا العقليتين الشعبوية والمؤامراتية تنطوي على عناصر تبسيطية أساسها التوهمات الرغبوية والإنكارات الدفاعية، فالاعتقاد بنظرية المؤامرة أكثر قدرة على إقناع الناس بأن التغيير إن حدث يأتي من خارج إرادتهم حصراً، فإن الاتجاهات الشعبوية قد تنطوي على الاحتمالين، أي ترى أن التغيير معطى ثنائي القطبية إما أن يصنعه الشعب أو قوى خارجية تصنعه، وكلاهما تتمتعان بحضور نفسي في العراق من طريق المشاركة السياسية أو العزوف والاغتراب السياسيين، فضلاً عن الهدف من التغيير يكون على حساب الحراك داخل المجتمع الذي قد يكون أساسه اقتصادي أو سياسي، إذ إن تراجع المؤشرات الاقتصادية بمستويات حادة يضع النظام السياسي في حالة حرجة تستلزم اتخاذ تدابير حاسمة باتجاه تغيير فلسفة الحكم ونهجه وإدارته للدولة، وتكون التدابير الجزئية غير ذات نفع في إحداث التغيير الداعم لرسم السياسات العامة وصنعها وتنفيذها في جانبها الاقتصادي للارتقاء بالمؤشرات.
وظاهر دور الثقافة لتحقيق الإندماج المجتمعي في العراق من طرف الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والاكاديمية والتشكيلات المعرفية والثقافية، على الرغم من جدلية الهوية الوطنية لم يفلح العراق بتأسيس نظام سياسي عقلاني رشيد منذ عام 1921 يواجه المشكلات ويجد حلولاً لها وتخللها ضعف في الوعي السياسي الثقافي للهوية الوطنية وسيطرة الانتماء الفرعي على هاجس المكونات الاجتماعية، وإن بناء الدولة قبل تأسيس الهوية لغاية عام 2003 يعود إلى متغيرات عدة من أهمها “الأيديولوجي والنخبوي والتأريخي”، أي ما يميز الحالة العراقية هو الذاكرة الجمعية المترعة بصور وأحداث وحكايات وروايات يتم نقلها عبر عملية التنشئة الاجتماعية لتتشكل بواسطتها الثقافة التقليدية بقنوات متنوعة.
أفرزت عوامل إرهاق النظام السياسي في العراق، فقدان الانتخابات لميكانزماتها الأساسية تجعل الخاسرين فيها يتحولون من الداعم لها إلى المشكك في كونها تعبر عن الديمقراطية الحقيقية، ليبقى متمسكاً بخيار الجمهور متحوّلاً من شرعية الجمهور بالانتخابات إلى شرعية الجمهور خارج الانتخابات بل وأن سلطة الجمهور خارج الانتخابات تعد سلطة أعلى لاتستطع الدولة مواجهتها لأنها قائمة على شرعية اسمها الجمهور، ما يولد الانشطار الذي يصل إلى الجماعة الواحدة فأصبح المؤيدون للنظام أقل من غير المدافعين عنه وانتهاء ثقة المواطن، وما تلك المعادلة تعني بالضرورة التغيير الحاسم بل مزيد من الأزمات واستفحالها مؤدية إلى مستقبل سياسي واجتماعي مجهول.