د. محمد وليد صالح
أكاديمي وكاتب عراقي
هل أن الشخص القارئ الذي لا يستطيع التحري عن صحة ما يقرأ يتمتع حقاً بالحرية في الإعلام؟ وهل أنه يتمتع بنفس الحرية إذا لم تتح له الفرصة لمعرفة مصدر الأخبار التي يقرأها عبر شبكة الانترنت؟
هذا السؤال يجعل من الصعوبة التأكد من مصدر الخبر في الصحافة الرقمية، التي تعتمد السرعة في التحرير والنشر، فضلاً عن تعدد المصادر الخبرية التي لاتفسح المجال أمام القارئ للوقوف على صحة ذلك الخبر، إذ أن نوعية الأخبار تتوقف على السرعة التي تبث فيها، لذلك فأن صحتها وصياغتها وسلامة التعبير عنها تتطلب التأني والمقارنة الدقيقة بين مصادرها المختلفة واحتمال التأويل، وما دمنا في زمن التسارع والسبق الصحافي، فالتأني مرشح للاختفاء من قاعات التحرير في المؤسسات الإعلامية.
خصوصية الإعلام
تدلل تجربة وسائل الإعلام المحلية في العراق على انه يمكن لأي منسوب لها ان ينجح بدون تعليم متخصص في مجال الإعلام والاتصال الجماهيري، لكنه لن يكون صحافياً دون أن يتعلم أبجديات المهنة من زملائه في قاعات التحرير، ويتبنى خصوصية العمل الصحافي ويتشبع بقيمهالإعلامية السائدة.
وبالتالي أصبح بأمكان أي متعامل مع شبكة المعلومات الدولية أن يكون صحافياً دون رصد أو صرف رأس مال كبير قياساً بما تستوجبه مراحل الطباعة أو في شراء محطة للبث الإذاعي أو التلفزيوني، وهذا ما يسهم في الحد من الإجراءات والشروط الأخلاقية والعلمية والمادية التي تفرضها السلطة لإنشاء وسيلة إعلام لكون الفضاء مفتوح ولا يخضع لسيطرة جهة معينة.
وهذا من شأنه أن يفجر حرية التعبير والكتابة ويمنح الذين حرموا منها فرصة الحديث، كما من شأنه أن يعيث فساداً في مهنة الصحافة، ويقيّض الأصول الأخلاقية والمسؤولية المهنية التي تؤطر حركة عملها.
فأغلب صحافيي المواقع الالكترونية لا يعيرون أهتمام للقيم والأعراف والأدبيات المهنية للعمل الصحافي، ربما يعود إلى جهلهم بها أو أنهم لم يلتحقوا بالجامعات والمعاهد ليحصلوا على مؤهل علمي في أكاديمية العمل الإعلامي، أو جهل معنى الخطأ المهني وعواقبه بسبب عدم الإطلاع عليها في المؤسسة الإعلامية، ولم يتعايش مع مهنة الصحافة وربما لم ينتظم مهنياً من أجل احترام المبادىء الأخلاقية الصحيحة وترسيخهالأعضائها.
لذلك فالعاملين في مجال الصحافة أحيانا يتبرؤون من كونهم صحافيين مهنيين، فتارة يميلون إلى الحديث الصاخب عن حرية التعبير، وتارة أخرى يتحدثون عن أخلاقيات المهنة وآدابها من باب “ان لكل شخص الحق في أن يكتب وينشر ما يشاء من الأخبار، وعلى القارئ أن يصدق أو لا يصدق، فالحكم الأخير يعود له”.
المسؤولية الاجتماعية
وضمن إطار نظرية المسؤولية الاجتماعية، التي تقتضي أخلاقياتها أن يكون الصحافي مراقباً ومحللاً آن واحد، من أجل المصلحة العامة والدفاع عن قضايا معظم الناس، وتحليل الظواهر السياسية والاجتماعية التي يعاني منها هؤلاء الناس والذين لا يملكون القدرة على فهمها وتحليلها أو معارضتها، إذ أنهم يريدون معرفة الوقائع وتحليلها ونقدها على قاعدة الدفاع عن مصالحهم كمحكومين والتي تعينهم على تشكيل رأيهم إزائها.
لقد رسخت المؤسسات الإعلامية ذات التصورات والفلسفات المتباينة، مجموعة من القيم الخبرية التي يعبر عنها الصحافي بحدسه وقدرته على تصور اللغة والمواقف الممكنة، ضمن مؤسسة تكوين الرأي العام وفي اطار التفكير الاجتماعي، التي تعد بمثابة خارطة طريق ودليل عمل الصحافيين.
لذا لا تمتلك صحافة الفرد معيار أو مقياس محدد لإنتقاء الأخبار التي تنشر، فهذا الفرد لا يشعر أنه مسؤول أمام قرائه الذين يطلعون على الأخبار عبر شبكة الانترنت وجهاز العدالة أو القضاء.
نظراً لذلك رفعت الكثير من الدعاوى القضائية رداً على ما تنشره بعض مواقع الصحف الالكترونية، لإعتقاد المس بالسمعة أو الكرامة وغيرها، ولاسيما أن مصدر الخبر في الأعراف الصحافية يتحمل جزءاً من المسؤولية الأدبية والجنائية على النشر، لكن القضاء احياناً يعجز أمام بعض الحالات التي ميّعت المصدر الخبري بتعدده ومسؤولية النشر أو البث.
إذ أصبح ما يخيف المؤسسات الإعلامية في الغالب من أن تتسرب المعلومات والإشاعات التي تدور في أروقتها إلى الصحافيين الرقميين فيؤثر ذلك على سمعتها، بل أن أغلبهم يعتمد على البريد الالكتروني وتطبيقات الهاتف المحمول الذكي في أرسال كتاباته ونشرها في المواقع الإلكترونية الأخرى.
التقانة الرقمية
أعاد التطور الحاصل في مجال تقانات الاتصال المجد لصحافة الإثارة بعد ظهور التلفزيون وانهماكه في تقديم المادة الخبرية الخفيفة والاستعراضية، نظراً للتحوّلات المختلفة في جوانب الحياة، وبات يفرض مواكبة تجربة صحافة الإثارة سعياً وراء منافسة الصحافة الرقمية، وهذا ما دفع المحطات الاذاعية والتلفزيونية الى تقديم برامجها على ذلك المنوال.
أن تأثير قسم من تلك الصحف على العمل الصحافي لا يقف عند حد جر المؤسسات الإعلامية لخوض منافسة شرسة، طبقاً لما يقال “أن أفضل الصحف تجارياً تلك التي تتغذى على الأحداث التي تثير انتباه الجمهور ورغباته” فحسب، بل أن ذلك التأثير يمتد ليصل حد تمزيق الجهاز الذي يفصل بين الخبر والإشاعة والخلط بينهما، فضلاًعن عدم وجود وسيلة إعلامية في العالم لم ترتكب خطأ نشر خبر كاذب أو إشاعة.
أن لشبكة المعلومات الدولية منافعها الجمة في مجال الإعلام والاتصالات، إذ ما قورنت بمضارها، فاليوم الصحافيون أصبحوا أعمق فهماً للموضوعات التي يتناولوها وأوسع إطلاعاً على ما يجري على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي، إذ يمكن للصحافة الحديثة أن تشكل مع بقية وسائل الإعلام “سلطة داخل سلطة” من طريق معارضتها لوسائل الإعلام التقليدية والحد من سطوتها على الجمهور.
فالعمل الإعلامي بمجالاته المختلفة سواء أكانت المقروءة أم المسموعة أم المرئية في ظل التطورات الرقمية والتكنولوجية والتغييرات المتسارعة، يتطلب منا زيادة درجة التفكير وتوجيهه الوجهة السليمة من أجل تقانة العمل الصحافي الحديث وفاعليته.