محمد عبد الجبار الشبوط
عبر خمسة الاف سنة من تاريخ “الدولة” نستطيع ان نقول ان هناك نوعين من الدول: دول تقوم على اساس الاستبداد، ودول تقوم على اساس الحرية.
في دولة الاستبداد تتجمع ظروف تسمح لشخص ما باقامتها مستخدما ثلاث ادوات او اليات هي: احتكار العنف و احتكار المعرفة و القيادة الكارزمية. وهذا ماسار عليه الطغاة منذ الفراعنة الى صدام حسين، وما قبلهم وما بعدهم.
وكانوا يدركون ايضا ان استمرار نهج رهن بتوريثهم الحكم الى ابنائهم. فاذا ما فشلوا في ذلك انهارت دولتهم.
كل تجارب التاريخ تؤكد صحة هذا الاستنتاج.
لا يقوم هذا الشخص لوحده بكل هذا، انما لابد ان يستعين بجماعة من الناس رضوا بالسير معه لاسباب شتى تخصهم.
القران الكريم اطلق على هذا النوع من الاشخاص لقب “فرعون”. وسنجد في انماط البعثات النبوية، ان احد هذه الانماط هو النبي الذي يبعثه الله الى الفرعون/ الحاكم بالدرجة الاولى وليس الى عامة الناس. وابرز مثال يقدمه القران هو موسى واخوه هارون: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى؛ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”. وسوف نلاحظ ان هذه الدعوات ذات هدف سياسي واضح يتمثل بتحرير الناس من طغيان الحاكم: “فَأْتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَٰكَ بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰٓ”، “وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ”. ولو تتبعنا سيرة الانبياء الذين بعثوا الى حكام طغاة، مثل موسى، لوجدنا انهم كانوا يركزون على تحطيم عناصر الهيمنة الثلاثة المذكورة، كشرط لتحرير الناس من هذه الهيمنة الظالمة.
وهذا درس مهم لكل من يأتي بعد الانبياء، ويواجه انظمة طغاة تقوم على عناصر الهيمنة الثلاثة المذكورة.
وخلاصة الدرس ان دولة الطغيان تسقط باسقاط عنصر الكاريزما اولا، ثم تليها بعد ذلك عناصر الهيمنة الاخرى.
فاذا ما انهارت دولة الطغيان، وجب الاسراع باقامة الدولة البديلة وهي دولة الحرية القائمة على اساس المؤسسات، التي هي دولة ديمقراطية بالتعريف. ان البناء الحقيقي للدولة يتمثل فقط في بناء دولة المؤسسات . ان الدول تسقط اذا لم تبنى على اساس المؤسسات. المؤسسات، بشرطها وشروطها، هي الضامن لبقاء الدولة واستمرارها وتطورها. واقصد المؤسسات بنوعيها: المؤسسات المعنوية كالدستور والاعراف الدستورية الديمقراطية؛ والمؤسسات المادية كالمجالس التمثيلية.
فاذا ما فشل المجتمع في بناء دولة الحرية على انقاض دولة الاستبداد، لاي سبب من الاسباب، يكون قد فقد البوصلة، ليدخل بعد ذلك في حالة ثالثة هي حالة انعدام الوزن، حيث لا استبداد ولا حرية، انما الفوضى.
وهذه هو حال العراق الان. فبعد القضاء على دولة الاستبداد، وان كان بالاحتلال العسكري الاجنبي، فقد عجز الذين تولوا الحكم بعد صدام عن اقامة دولة الحرية، ايضا لاسباب شتى لستُ في معرض الحديث عنها الان. وهذا مأزق مزدوج: فمن جهة اولى لم يعد بالامكان العودة الى حكم الاستبداد لمنع الفوضى حتى وان رغب البعض بذلك، ومن جهة ثانية لا تتوفر المتطلبات الضرورية لاقامة دولة الحرية على اساس المؤسسات لمنع الفوضى وتحقيق التقدم. وهذا هو تفسير الفوضى التي يعاني منها العراق، والتي اطلقت عليها اسم: مرحلة انعدام الوزن.
الوضع حرج الان في العراق، والمهمة مزدوجة. فمن جهة يجب منع الارتداد نحو الاستبداد، ومن جهة ثانية، يجب العمل على اقامة دولة الحرية، التي عنوانها الدولة الحضارية الحديثة، وبخلافة فان مرحلة الفوضى و انعدام الوزن مرشحة ان تطول. ولا حول ولا قوة الا بالله.