عصمت شاهين دوسكي
عمارة عالية ذات عشرة طوابق وفي شقة أجرها لنا شخص من كبار المجتمع في دهوك وهو المهندس المدني الأستاذ الكريم سربست ديوالي أغا لعدم مقدرتنا على دفع ثمن الإيجار ، جلست ذات فجر هادئ على كرسي ابيض اللون في شرفة تطل على شوارع وسيارات وأزقة مدينة دهوك ، عالم صغير أمامي وفي أعماقي عوالم كبيرة سلسلة جبال ” زاوه ” جاءت تسميته من زاوية الجبل ومن القرية التي تقع خلف الجبل ، شامخة بمستوى نظري وكأنها أسوار قوية لمدينة هادئة مطمئنة تنام متأخرة وتنهض متأخرة ،هدوء جميل وسحر الطبيعة أجمل ، الأبنية والعمارات العمودية العالية ترسم للطبيعة خطوطا بيانية ملونة ، قليل من المارة وعمال البلدية بملابسهم البرتقالية ينظفون الشوارع قبل أن ينهض الناس وتخيل لو ينظف بعض المسئولين أفكارهم السود وأنفسهم كي يخرجوا من أنانيتهم الرعناء وجشعهم وفسادهم وحبهم للاستجداء والولاء لأصبح الوضع أجمل واعدل بكثير ، هؤلاء العمال البسطاء الذين ينظفون الشوارع والأزقة أشرف من الفاسدين الأغنياء ،الأغنياء بمناصبهم الفانية وسلطتهم الفارغة وكلامهم المعسول ومظهرهم المنمق الخادع ونظرتهم القصيرة للأشياء ، هناك نسائم روحانية حملتني على بساط الذاكرة لأبحر في خيال واسع ولفضاء عقلي الباطني الذي يختزن الصور والأحداث ،وإذا مع تلك الأيام العصيبة المؤلمة التي كانت تدق نواقيس الخطر ونحن منغمسون في المعيشة ، تائهون نبحث عن لقمة العيش أينما كانت ، حيث مدينة الموصل الحدباء أم الربيعين كيفما شئت سمها فهي تستحق كل الألقاب الجميلة ، هذه المدينة التي عشت فيها وأنا عمري ست سنين ، هذه ،المدينة التاريخية بعمقها الحضاري التي أنجبت أعظم القادة والمفكرين والباحثين والفنانين ،الموصل مركز محافظة نينوى، ثاني أكبر مدينة في العراق حيث السكان حيث يبلغ تعداد سكانها حوالي ( 4 ) مليون نسمة. وتبعد الموصل عن بغداد عن تقارب حوالي 465 كم ويتحدث سكانها اللهجة الموصلية تتشابه بعض الشيء مع اللهجات السورية الشمالية ومن خلال المحافظة على هذه اللهجة المميزة حافظت المدينة على هويتها الخاصة ، أغلبية سكانها ينحدرون من السنة وهم مسلمون عرب وكرد ومعهم يعيشون بسلام المسيحيون والتركمانيون والشبك واليزيديون والصابئة كأنهم عراق مصغر ، للمدينة عدة ألقاب أم الربيعين لاعتدال الطقس فيها في فصلي الربيع والخريف ،والحدباء لتحدب نهر دجلة لدى مروره فيها أو لتحدب مئذنة الجامع ألنوري المشهور ..
هذه المدينة الراقية بين ليلة وضحاها تجلت مدينة يملؤها العسكر الجيش والشرطة والأمن في أحيائها وشوارعها واغلب أفراد الجيش ليسوا من المدينة يوم بعد يوم السيطرة العسكرية تزداد ويزداد معها الاختناق في المرور والاختناق النفسي والفكري فكثير من الأنفس فارقت الحياة وهي تنتظر دورها في العبور من السيطرة فإن حرمان الفرد من حريته وكرامته وعزته وشعوره بالإذلال لأبسط الأمور الحياتية لأمر غاية في الصعوبة والتحمل خاصة كانت السيطرة ليست بعيدة واحدة عن الأخرى إلا بمسافات قليلة ، يقف المواطن الموصلي بسيارته لوحده أو مع عائلته ساعات طويلة ليمر إلى منطقة أخرى والسبب الحالة الأمنية المضطربة التي تعم المدينة إلى أن أصبح الدخول إلى الحي السكني من بوابة واحدة وباقي الشوارع المؤدية للحي مغلقة وتفننوا بالقيود أصدروا بطاقات خاصة للحي السكني ، كلما مرت الأيام تزداد الأمور سوءا وذاقت الناس الأمرين فإن شكوت و انتقدت الوضع العسكري أصبحت إرهابيا مفقودا أو مسجونا أو في مكان لا يعلم به إلا الله وكل هذه القيود والأسوار والأسلاك الشائكة والحواجز الأسمنتية مع الفساد المادي والإداري والثقافي والأخلاقي الذي انتشر بشكل علني بعد أن كان ضمنيا مخفيا هذا الأمر الذي أدى إلى تفاقم التفجيرات والاغتيالات كأنه برنامج منهجي يطبق على هذه المدينة البريئة وبدأ الحراك الشعبي كما كان يدعى في منطقة السجن القريبة من منطقة الغزلاني نصبت الخيام وأنواع الرايات تندد سلميا بمظاهرات تعكس الوضع المأساوي للمدينة ، مرة تطوق هذه المظاهرات ومرة تفرق حسب التوجيهات وقد خصص يوم الجمعة لها ورغم عسكرة المدينة بجيوش كثيرة وبأصناف عديدة بشكل واضح كانت حدودها متروكة لمن هب ودب لا أحد يلتفت إليها فيهب إليها من يرغب ويدخل إليها بلا وجل وكنا نتساءل عفويا عندما نجتمع في المحلة :
لماذا الحدود متروكة وداخل المدينة جيش جرار بأسلحتهم القتالية الحديثة المتطورة ؟
الأجدر بهم أن يمسكوا الحدود ويؤمنوها ويمنعوا المتسللين من الدخول ،ويمنعوا دخول الشاحنات المحملة بأنواع الأسلحة والمتفجرات .
ورغم كل هذا الكم الهائل من الجيش والشرطة والأمن والطرق المقفلة والأسوار والأبراج العسكرية التي تراقب الناس ، مسلسل الاغتيالات والتفجيرات مستمر وضحيتها كل من يعمل في الجيش السابق والأعلام والصحفيين وأساتذة الجامعة الذين يحملون الشهادة الطبية والهندسية والعلمية والقادة القدماء ،وبدأت التهديدات من خلال أبواب الجوامع حينا يرمي احد الأطفال القرص الذي كان يتضمن عمليات قتل مبرمجة ومدروسة بخطط متقنة أو من خلال إعلان نصي يتضمن إعلان التوبة ، لم يجد المسئولون العسكريون والأمنيين أي خطط وتغييرات تحد من خطورة هذا الوضع المؤلم بل هذه الفوضى السياسية والفكرية والإدارية التي تعم المدينة وضحيتها المواطن المسكين بل العكس اخذ العسكر موقفا معاديا للشعب الموصلي واعتبروهم خارجين عن القانون رغم بساطة وعفوية وفطرة المواطن الموصلي الذي كان اكبر أحلامه أن يشعر بالأمان والسلام ، بطبعه مسالم بعيد أن يؤذي أي بشر ،وبدأت الحواجز الكون كريتية في داخل الأحياء الضيقة أيضا وكل جداريه الكون كريتية كانت تكلف الدولة حسب تقديرات المهندسين المعنيين والتجار مليون دينار عراقي تقريبا أو أكثر ، فيا ترى كم صرفت عليها خاصة وجودها بكثافة بكل طرق وأزقة وجسور ودوائر الدولة والمعسكرات حتى في بيوت المسئولين ؟ يا ترى لو وضعوا هذه الحواجز الكون كريتية على الحدود التي عرضها متر وطولها خمسة أو ستة أمتار وسمكها ثلاثون سم ألم تكن أفضل من أن توضع داخل المدينة التي غيروا معالمها الجميلة ، لم تكن معاملة الجيش مع المواطن الموصلي إنسانية بالمعنى الحقيقي للإنسانية بعد القيود الفكرية والنفسية والمادية والاجتماعية حتى عندما ينقل شخص أثاث بيته من مكان إلى آخر يجب الحصول على الموافقات من الجيش والمسئولين الأمنيين التي إن حصل عليها تأخذ فترة زمنية طويلة بمرورها على الروتين القاتل إلى أن أصبح المواطن الموصلي خائفا من الجيش والشرطة والأمن وهذه العناصر تعتبر في كل دول العالم عناصر أمن وسلام للمواطن إلا المواطن الموصلي الذي أبتلي بالفوضى والاضطراب والفساد وعدم الاستقرار والراحة لا يدري إن خرج من بيته سالما سيعود أم لا ..
كنت اعمل في جمعية همها توفير المواد الاستهلاكية كالملابس والأثاث والمواد الكهربائية وكل ما يخص المنزل الموصلي وكنت مسئولا على مكتبة عامة اعتبرتها مكتبة عالمية لوجود مختلف الكتب الأدبية والتعليمية والنفسية والقانونية والاقتصادية والتاريخية والدينية ومن مختلف منشئ العالم لكن الاقتصاد لم يكن منعشا للفرد لهذا كانت قوة الشراء ضعيفة جدا إضافة إلى أن كل يوم خميس تقريبا يصدر منع تجوال تفرضه سلطات الجيش ، كنا نغلق الجمعية ولا نعلم متى ينتهي منع التجوال حيث الوضع غير مستقر أمنيا وكنا نبقى في بيوتنا أيام الخميس والجمعة والسبت ثم يفتح جزئيا أو كليا باقي أيام الأسبوع ، الخوف والقلق يخيم على وجوه الناس كيف لا وقد تمشي وترى جثة رجل مرمية على أرصفة الطريق والكلاب تنهش فيها ورأس مقطوع مركون على ظهر جثة رجل ملقى على الجزرة الوسطية وعجبي على المارة والسيارات تمر أمام هذا المنظر غير إنساني ولا تحرك ساكنا كأنها تعودت من كثرة هذه المناظر المؤلمة فالعين عندما تتعود رؤية منظر كل يوم يقل العجب والتأثير إلى أن تأتي سيارات البلدية أو أحد أقربائه ليلا أو واحد من الناس بجهد إنساني يواري هذه الجثة حتى دب الخوف ليس في قلوب الناس فقط بل في قلوب أفراد الجيش والشرطة والأمن الذين أعلنوا للناس إنهم سيفرون إذا حدث شيء في الموصل .
الفصل الأول من رواية الإرهاب ودمار الحدباء*
رقم الإيداع في مكتبة البدرخانيين في دهوك – 2184- لسنة 2017 م الذي ساهم في طبعه الأستاذ الباحث في الشؤون الشرق أوسطية – سردار علي ستجاري