بقلم :د. دنيا الحسني
إن تجربة الفنان التشكيلي والمسرحي العراقي “عماد نافع” بتعدد روافدها الإبداعية والفنية، تشكل فيضاً بليغاً من ينابيع التعبيرالرمزي في التجريب التشكيلي بالمزاوجة مع المسرح الذي أتخذه أسلوبًا ومنهجاً فنيًا جديدًا، يقدم من خلال محاكاة رموز تعبيرية ويثير تساؤلاتها البصرية فوق المربع “المستشكيل” في تجربة كأنها الخيال لينقل المشاهد بصرياً للوحة ” الهروب من الله ” من معرض ” اشلاء من جسد السماء , قاعة رواق الحصن في الاردن / اربد عام 1995 ,وهي عبارة مشهد مسرحي بصريح التجربة التشكيلية، لذا نجد الحركة المسرحية لتحولاتها من خلال لحظة (الهروب الى الله) من خلال كسر الاطار التقليدي للوحة وخروج ” الفكرات” نحو الفضاء الارحب , وهنا يستثمر الفنان عماد قدرته الفائقة في الرسم والنحت ,ليرسم لنا حركية مثيرة لعائلة التهمها الانفجار , ولم يتبق منهم سوى اشلاء بسيطة شكلت محور اللوحة التشكيلية على خامة الرسم , وذاتها خرجت الى الفضاء الخارجي طالبة المعونة من الله .
ومن خلال لوحة (الهروب إلى الله) نجد الإبداع واضح ويجسد قوة الرمز في لغة فنية مفتوحة على مستوى يتجاوز السقف الفني إلى الحداثة إضافة لكونه تشكيليا ً فهو يمتلك كامل الادوات التي يكمن في فضاء الفلسفة والإبداع، ورهافة الإلهام وبصمت، وبلاغة كاشفة عن معاني وحدة الوجود، التي تقتنص الإحساس بغربة الروح في منافي الأرض، والذي يبسط سيطرته على كامل المساحة في وجداننا الحسي بآفاق الوجود
فهذا الجسد هو ليس غير غلاف مادي لذواتنا، ودليل وقع حضورنا المؤقت في هذا العالم. حيث أهتم هذا الفنان في كل منحوتاته بالرموز المفتوحة التي يعبر من خلالها عن الغاء مظاهر التفرقة والعنصرية بين البشر فكل الناس متحدون في بنية الجسد ومتساوون في التكوين الإنساني .
“الحوار الفني”
هذه اللوحة التي يجسدها الفنان “عماد نافع” تشكل جسرًا للحوار الفني مع الرؤية البصرية، افاضت بوحا ً لونياً أيقونة بصرية عميقة تسكنها مغامرة مفتوحة على جمالية الخيال التي تؤمن إمكانية القراءة والتأويل، والامكانية التعبيرية تنصب على عدة عوامل فنية مشتركة ومنسجمة من حزمة معرفية واضحة ومميزة، معبرًا عن رؤية ذاتية رصينة لا تنقصها روح المغامرة. لهذا تجده يرسم (بديناميكية) وهو ينفث في لوحته روح نابضة بالحياة ليشكل حركتها الذاتية . آي يوظف المستشكيل “عماد نافع” لمسته التعبيرية الرمزية التي يجيد تشكيل ألوانها بمهاره في عمل لوني وتشكيلي درامي، إلى جانب استخدام أدوات وتقنيات جديدة ، من خلال سرده لتكنيك هذه الأعمال في نطاق مسرحي يتبنى أسلوبه الخاص في الحداثة والمعاصرة، والمحافظة على معنى الأصالة والجوهر، الذي يغور في أعماقه مع حرصه على تجديد مصادر الالهام لرؤيته في مصطلح (المستشكيل)، وهذه اللوحة على مافيها إنطباع متوهج، تستقي مادتها البصرية الحيوية من خلال فسحة الخيال في تجسيد فكرة هروب الأرواح الميتة في حياتها التي لم تعد تحيا وجفت عروقها كأنها خشب مسندة تطايرت الى فضاء السماء السابعة، فتنفذ من أقطارها هروبًا وتلجأ إلى(الله) سبحانه وتعالى، وكآن الايحاء يدور إلى ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقيا التي تفترض فلسفة وجود عالم الروح. وهكذا إستعرض معنى التزاوج بين الرسم والنحت الذي يوحي الى لمسه فنية ساحرة تاخذك الى الفضاء الخارجي بعيدًا عن اللوحة.
“المزاوجة بين التشكيل والمسرح “
” الفضاء السابع”
الخروج عن اللوحة التشكيلية لم يكن الهاجس الوحيد للفنان ” عماد” ولكن هدفه كان ابعد من ذلك , مادام الخروج الاول لم يفك أسرار الثابت وغير المتحرك , وهنا جاءت التجربة العالمية ” الفضاء السابع ” , ليتحول بها النحت الخشبي الى جسد بشري …يؤدي كممثل جسد على خشبة المسرح , لتتكامل التسمية المركبة .” مستشكيل ” , بمختلف مساحاتها المتحركة .
إن هذا الفنان التشكيلي البارع الذي يستثمر كل البلاغة التركيبية والاستعارات الدالة على معنى الحرية في مسحة جمالية بليغة، لا يتوانى على ابراز دور المزاوجة في عمله الفني بين التشكيل والنحت وما لهما من فروقات وتباين في المعالجات الفنية ، وإن تجربة المستشكيل هي اللوحات الفنية التي تتمرد على واقعها الساكن والجامد لتقتحم عالم الحركة في المسرح عبر لغة الجسد ( البانتومايم)،، لأن منحوتاته بالتشكيل المفتوح الذي يكثف دلالتها المتداخلة بين السكون والحركة ولما تحمله هذه اللوحات من صفاء الإشارة وخفة التعبير ، تسندها رؤية فنية أوعزها الفنان بشكل فني حركي تشكيلي مسرحي مزدوج فهو نحات وتشكيلي محترف ينحت بعدة معرفية مؤهله للارتقاء لتمتد إلى المستوى الفني العالمي، إلا أن اللافت في تجربته هذه تداخل بين الفنين : فانك تحسه ينحت خارج اللوحة ويرسم أو يشكل منحوتاته، يمسك الإزميل مع الريشة، يبحث عن ظل اللوحة المنحوته وضوئها عبر سبر أغوارها الغائرة في طيف الألوان الجذابة، كي تصير نيرة وبارزة الرغبة في إختراق أفق كل ماهو جميل ومثير، وهو ما جعل المستشكيل يوظف لوحاته كخلفية لمنحوتات متسمة دائما بشفراتها (الاستطيقيا) التي هي احتفاء معرفي بالجسد، كعلامة رمزية باذخة تشكل تمثلتها انثروبولوجيا روحية.
“ملحمة مسرحية”
من خلال لوحاته التعبيرية الموغلة في الرمزية رحل بنا الفنان “عماد نافع” إلى عوالم ممتدة لا حدود لها من الخيال والحلم بطريقة ابداعية تأسر الناظرين باسلوب يبرز فيه البحث التشكيلي الدؤوب للفنان عن جمالية مميزة في اللون والشكل في حركة لا تخلو من نغم وإيقاع هاديء وانسيابي لا حدود له . كما في تجربة لوحة )الشهيد( أشتغل الفنان بشكل فني مزدوج يستدعي من خلاله ملحمة مسرحية حيث تخرج خامة الرسم البيضاء الطويلة جدًا عن الإطار التقليدي وتلتف بالشاب الشهيد وتلتف كذلك بأم الشهيد والجسد متحررًا متمرداً منطلقاً، ومع ذلك يخضعه لسلطة واحدة، هي سلطة الارتقاء بين الالوان التي تكمن أهميتها لتعبر عن ملامح اللوحة. وجسد الشهيد بعد خلاصة تجربته التشكيلية ومعالجاته بالألوان الزيتية
أو الاكريلك، اذ نتأمل اللمسة الفنية ونكتشف جمالها وهذا ما يهب عمله الفني نضجاً واكتمالاً مميزًا، مما يؤهل صياغة رؤية نقدية واسعة، وتبرز في أعمال المستشكيل “عماد نافع” نسقا ً إيقاعيًا تتحرك اللوحة بصورة حركية وغنائية ما يجعل تأثير اللون هنا يشبه تأثير الموسيقى، من حيث كونه لا يخضع لقوانين ثابته ليتحرك كل شيء باللوحة التشكيلية داخل وخارج الإطار، وهنا جمهور التشكيل يتعامل مع الشكل والمضمون كلوحة تشكيلية وجمهور المسرح يشاهدها عرضًا مسرحيًا، كي يخرجه من عالم السكون إلى الحركة ومن الصمت إلى الكلام، وكأنه يرفد في أجساد الشخوص الطاقة التي تعبر عن الحركة والحوار من تجديل الألوان ، والفضاء يفتح أفق التلقي على الشعور لكونه في رحلة روحية بعيدة وقريبة المدى في آن واحد، وبلحظات مختلفة .