محمد عبد الجبار الشبوط
“الحضاري” يلحق بالامم او الرؤى ذات المنظومات القيمية الكبرى. ومنظومة القيم العليا هي القاعدة التي ينطلق منها الوعي الحضاري لاحداث التاريخ.
سبق مني القول ان الدولة الحضارية الحديثة سياق بشري تاريخي تراكمي قابل للقياس. وهي قد اخذت بالتبلور منذ ظهور دول المدن قبل الاف السنين.
وقد رافقت الحربُ ظهورَ المدن، وبخاصة مع ظهور المدن المسورة واولها مدينة اريحا في فلسطين قبل حوالي ١٠ الاف سنة وشروع الانسان بتصنيع الاسلحة البدائية.
وبذل الانسان جهدا كبيرا في تسويغ الحرب، حتى كُتب عن الحرب العادلة، والحرب الدفاعية، وغير ذلك.
لكن ذلك لا يستطيع ان يلغي الصفة البشعة للحرب، وما تجره على الانسان من ويلات والام ومعاناة.
والتاريخ البشري هو في مجمله تاريخ حروب حيث يستسيغ الانسان قتل اخيه الانسان لمختلف الاسباب. ولذا كان مطلب السلام اصعب منالا من مطالب الحرية والعدالة.
وقد خاض الانسان في القرن العشرين حربين عالميتين وعددا كبيرا من الحروب المحلية من بينها الحرب العراقية الايرانية التي استمرت لثمان سنوات.
وقبلها شنت الدول الاوروبية المسيحية الغربية (اسبانيا، البرتغال، هولندا، المانيا، ايطاليا، بريطانيا، فرنسا، الخ) حروبا توسعية ضد العالم الاسلامي من المغرب الى اندونيسيا.
وتشير الخبرة التاريخية، حتى الان، الى ان الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض. لكن الدول الاخرى تتحارب فيما بينها بنسبة احتمالية عالية. وتزداد هذه الاحتمالية بالنسبة للدول ذات الانظمة الاوتوقراطية والدكتاتورية التي يتعلق قرار الحرب عندها بشخص واحد، كما هو الحال بالنسبة لصدام وبوتين.
الغزو الروسي لاوكرانيا دليل ملموس على ان طريق البشرية نحو الدولة الحضارية الحديثة مازال طويلا. وانه بمقدور دولة قوية يقودها حاكم اوتوقراطي ان تغزو دولة صغيرة اضعف منها لتبتلعها او تفرض شروطها عليها، وان السلام الذي تنعم به المجتمعات الصغيرة مازال هشا، وان النظام الدولي مازال غير قادر على منع الدول القوية من غزو الدول الاضعف منها. على المستوى الدولي مازال المجتمع البشري يعيش في مرحلة القوة، او شريعة الغاب، ولم تنفع بعد محاولات صنع نظام عالمي يقوم على السلام في تحقيق هذا الهدف، منذ انطلاقتها في معاهدات وستفاليا عام ١٦٤٨ الى تشكيل عصبة الامم بعد الحرب العالمية الاولى، ثم الامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. بل يوجد حكام لم يستفيدوا بعد من التجربة الدموية المرة التي اجراها صدام حسين في غزو الكويت عام ١٩٩٠.
طريق البشرية نحو عالم ينعم بالسلام على اساس منظومة القيم الحضارية العليا مازال طويلا، لان الشرور الكامنة في النفس البشرية وفي العلاقات الدولية مازالت قوية، وان عناصر الخير، والقيم الانسانية العليا ومنها السلام القائم على العدل واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها ما زالت ضعيفة. وما زال ساريا في العلاقات الدولية قول القرآن الكريم:”وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا”. وتكشف المواقف المتناقضة والمتضاربة من الغزو الروسي عن هشاشة الرؤية الاخلاقية للعلاقات الدولية وممارسات الدول المناقضة لمنظومة القيم العليا الحاكمة.
تمر شعوب الارض، التي استخلفها الله في الكون لغرض اعماره في بيئة عادلة مسالمة، تمر باختبارات صعبة متتالية، لتقرير مدى صلاحيتها واهليتها لهذا الدور التاريخي الحضاري، ومدى قدرتها على العيش بسلام وتعاون فيما بينها. الحكام يزولون حين يفشلون في هذه الاختبارات، لكن الشعوب تبقى حين تنجح فيها، والا فان فشلها في الاختبار يقود الى تطبيق قانون التاريخ عليها، واقصد به قانون الاستبدال الذي ينص على ما يلي: “إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِـَٔاخَرِينَ، وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا”.
شاهد أيضاً
خداع الروابط: وهم العلاقات الزائفة”
في عالمٍ يُشبه المتاهة، حيث تتشابك الطرق وتتقاطع المصالح، تغدو العلاقات الإنسانية مرآة تعكس لنا …