هل اصبحنا مصابين بمرض الاسقاط النفسي ..؟

جوتيار تمر/ كوردستان

ما الذي يدفعنا دائماً الى القاء اللوم على غيرنا حين تتحول طموحاتنا الى هزائم ليس في واقعنا فحسب، انما في ذواتنا، وحتى في احلامنا..؟ ، هل يتحكم بنا الاسقاط النفسي ام نحن من نتحكم به ونوظفه لاغراضنا التي نسعى لتحقيقها ولو على حساب قضايانا المصيرية..؟ ، وبالطبع لانعني بالاسقاط هنا اسقاط المنافس السياسي او تسقيطه كما يقول قاسم حسين صالح، كما لانعني به الخطأ في الحساب والقول، أو: زَلَ ، اخطأ، وتحير ، والسقيط يعني الناقص العقل، كما في القاموس المحيط، وما نقصد به من الاسقاط هو من المنظور السيكولوجي باعتباره فعل لاارادي يقوم من خلاله الشخص بنسب افكاره او انفعالاته لآخر أو آخرين لاسيما السلبية منها أو غير المرغوب فيها أو التي تسبب له التوتر ( السياسيون وسيكولوجيا الاسقاط)، وتاريخياً ينسب الى علي بن ابي طالب قوله : ” إن الفتى من يقول ها انا ذا  – ليس الفتى من يقول كان أبي ” (ينظر: ابن زكري الفاسي،الفوائد المتبعة في العوائد المبتدعة)، وكأن مقولته تلك اسقطها الساسة بشكل معكوس، بحيث لا ارادياً اصبحوا يتغنون بتاريخهم السابق ويسيقون افعالهم الحالية وفق نظرية الحق الالهي، باعتبارهم اصحاب  – كان ابي – ، فكل الاخطاء والزلات ليست لها اهمية، لانها سقطة لأن ليس هناك من لايخطأ، ولكن ادعاء ان تلك السقطات سببها اخرين، ذلك من صميم الفعل الاسقاطي النفسي القائم على إلصاق الفشل بالغير، وقيل قديماً ” قد يفشل المرء كثيراً في عمله ولكن لايجب اعتباره فاشلاً إلا إذا بدأ يُلقي اللوم على غيره..”، وبالتمعن في واقعنا على جميع الاصعدة السياسية والشعبية والاقتصادية والاعلامية، سنجد مدى انغماس شعوبنا بكل تلك الشرائح في الفعل الاسقاطي، بحيث نراهم تجاوزا حدود التبرير اي بمعنى الكذب الصريح  على الذات، الى قمة الاسقاط النفسي، دفاعاً عن ذواتهم المنغمسة في المصلحوية الشخصية والحزبية والطائفية الدينية والقومية.

 لقد اجاد علماء النفس في الوقوف على طبيعة الاسقاط النفسي واعراضه، وبينوا بشكل واضح  وصريح كيف يحدث الاسقاط النفسي  فذهبوا الى أنه يحدث في اللاشعور بشكل بحت، حيث يجد الشخص نفسه يتصرف آلياً دون أن يفكر أو يشعر، فيهاجم من حوله ويلصق عيوبه ونقائصه بهم رغبة في حماية نفسه من ان يتهم بهذه العيوب – يرى فشل الاخرين ويجهر به على الملأ ولكنه لاينظر الى فشله الشخصي، الجماعي -، ويعتمد دائماً على لوم الاخرين على الاشياء التي فشل أن يفعلها، ويوقع عليهم التهم، بأنهم هم من عرقلوا طريقه في الوصول لها، وأنهم هم من اوقعوه في تلك الاخطاء، وفي الوقت نفسه يحاول هذا الشخص ان يقول بأن شخص ما يكرهه، على الرغم من كراهيته هو لذلك الشخص – كما نرى في فعل الغوغائية الفوضوية الاعلامية التي تستغل سخط الناس على الحكومات في الازمات فتعمل على اثارة النعرات والاتهامات من خلال انتقاء بعض الاشخاص الساخطين لينتقدوا الحكومات ليس للاصلاح انما فقط لبث الفوضى -، وذلك بغرض اخفاء مشاعره الدفينة تجاه الغير، مما يخفف من شعوره بالذنب، ولعل من قارئ يرى ان تلك الافعال هي تبريرية في الواقع، ولكن الحقيقة ان التبرير يختلف عن الاسقاط النفسي ،ونحن حين نقرر مفهوم وطبيعة الاسقاط النفسي، فإننا وبحسب علماء النفس نرى الاسقاط يكون سلاح يتخذه الفاشل المهزوم  دفاعاً عن النفس، وينتج عنه شعور كبير بالذنب حتى يصل للهلوسة والهذيان، اما التبرير فانه حالة من كذب الشخص على ذاته، حتى يستطيع تحمل خطأه.

ومن خلال ذلك المنطق يمكن النظر الى آليات الدفاع التي تنتهجها جميع الشرائح داخل مجتمعاتنا، وكيفية تعاملهم مع الحقائق، التي خرجت من دوائر التبرير – الكذب على الذات – الى دوائر اوسع دفاعية تحاول ان تُلقي باللوم دائماً على مجهول خفي جبار مُتحكم ومُسبب لكل صور فشله، بعيداً حتى عن المنطق السياسي الذي قد يُقدم شخص واعي على ربط العوائق بالمصالح التي تنتهجهها المنظومات الدولية وكيفية الانسياق ضمن مساراتها، او الابتعاد عنها فتكون درجة العوائق هنا متعلقة بالاثار التي تحدث حين تسير وفق المسار او خلافه، لأن الاصل في الاسقاط النفسي الموجود في غالبية مجتمعاتنا هي ناجمة من خضوع السلطة السياسية بالدرجة الاساس لموجبات الفشل غير المتعلقة والصادرة عن القوة الذاتية، وذلك لان الفرد السياسي لم يدخل في صميم العملية السياسية من باب سعيه التدريجي، او وعيه التدريجي التطوري، ولكنه وجد نفسه سياسياً فاراد ان يمنطق وجوده وفق ألآلية التي ينتهجها الساسة، فكان الفشل ذريعاً في كل الخطوات، كما ان الفشل كان مدمراً على جميع الاصعدة، فالبنية الاجتماعية اصابها التفكك وشرخ كبير، فاصبح كل الافراد ساسة ويُقَيّمون الحكومات وفق نظرياتهم الخاصة المبنية على القوت وتوفير القوت بعيداً عن المُحكَمات الاخرى للسياسة، من فهم وادراك واقعي لتبعيات وجود الحكومات وبرتوكولاتها وواجباتها وحقوقها ضمن اطار تكاملي، ناهيك عن الخضوع لتيارات المعارضة التي تستغل الازمات والفوضى السياسية في الغالب وتحاول القاء لوم الفشل – فشلها – في تحقيق ذاتها على الحكومات واتهامها بالعمالة لأجندات خارجية اقليمية ودولية، او اتهامها بأنها لاتصلح لقيادة الامة، لكونها لاتستطيع ان تدافع عن سيادة الوطن امام تحديات وانتهاكات الاخرين لاسيما الدول الاقليمية التي تسعى دائما لنقل جبهاتها داخل حدود الاخرين، لتقدم لنفسها كذباً تبرير خرقها للقوانين الدولية وانتهاكها لسيادة الاخرين سواء باقتحام حدودها او التدخل في سياستها، كل ذلك يخلق شرخاً اجتماعياً واضحاً في بنية المجتمعات، وتزداد الهوة بين المنطق والعقلانية وبين الفوضى الواهمة التي تتبناها الغوغائية الفوضوية،  اما البنية الاقتصادية فهي تجميلية ظاهرية اعلامية وفي جوهرها ديون وخضوع تام لللااستقرار – فقدان الامني الغذائي -، وبروز طبقة ارستقراطية متحكمة بمصادر الاموال، ومتحكمة في آليات العمران الداخلي غير المنظم العشوائي – البناء العشوائي – الذي دائماً يتسبب بازمات حقيقية للمجتمعات،كما انه في المستقبل القريب لن يكون الا فوضى اخرى حتمية، وكلما اتسعت الهوة بين طبقات المجتمع اقتصادياً كلما كانت خضوع الناس للاسقاط النفسي اسهل واكثر تأثيراً وتأثراً، فإلقاء اللوم يتجه دائماً نحو الحكومات التي لاتستطيع ان تحقق مطاليب الشعوب بسبب الازمات الخارجية التي تؤثر فيها، وبسبب انتشار الفوضى داخلياً،  أما البنية الاعلامية  فهي في الاصل غوغائية فوضوية تعيش على مخلفات وفتات الازمات والاعمال الفاشلة للساسة، على الرغم من كون اصحاب نظرية الاعلام تلك هم في الاصل فاشلين قولاً وفعلاً وليس لهم اي  برنامج اصلاحي شمولي، سوى معاداة الاحزاب المنافسة والاشخاص ضمن صورة اقل ما يقال عنها انها عداءات شخصية، لانه هولاء لم يمروا بمراحل السعي والفشل ومن ثم السعي والنجاح، بل ظهروا فجاة ودخلوا المعترك السياسي وهم يمتلكون قوة اقتصادية مادية اعلامية كبيرة، هدفهم الاساسي اثارة الفوضى، ولايُعرف عنهم مرورهم بمراحل وتجارب سياسية سابقة ليتعلموا من ترجبتهم وفشلهم السابق، لذا نجدهم يبنون صرحهم فوق فتات فشل الاخرين، ومُخلفات الفوضى الناجمة من الازمات، فاصبحوا  كما يقول عبدالله الجعيثن في مقال له ” الفاشل من يُلقي فشله على غيره”، ان القوة الذاتية في الانسان تتراكم عبر تعلمه من اخطائه وفشله في بعض المراحل، ولايمكن ان توجد قوة ذاتية في إنسان لم يفشل ابداً، لأن الذي لم يفشل ابداً لم يعمل عملاً حقيقياً ابداً – كتلك الفئات الاقتصادية التي تحولت الى احزاب سياسية مدعومة بالمال والاعلام، حيث نجد اساس وجودها قائم على تنفيذ ما يُؤمرون به بشكل حرفي، وهم دقيقون في التنفيذ ولكنهم غير ممتلئين من الداخل ولا محصنين ضد مختلف المواقف والتغيرات والتحديات لأنهم لم يمروا بها من قبل ولم يواجهوهها ويعالجوها فيفشلون في ذلك مرة أو مرتين أو ثلاثاً وينجحون عشرات المرات، وقد بنوا نجاحهم على دروس فشلهم، وكسبوا في داخلهم الاحاطة بجميع المحاذير والظروف، والمحاذير هي أهم ما يواجه اصحاب القرار، فإن كل قرار قوي له وجه براق إذا لم ننظر الى محاذيره، وهولاء قرراتهم براقة ولكنهم لايملكون اية مقومات لحل الازمات التي سبب قوتهم، ووجودهم منوط بتنفيذ ما يُطلب منهم، ونجدهم دائماً في جانب المعارضة التي تُلقي باللوم على الاخرين، وتُرجع اسباب فشلهم سواء كأفراد او مجموعات – فشلهم الذاتي – وفشل المنظومة التي يعمل تحت سقفها الى اشخاص اخرين او جماعات اخرى.

وعلى ضوء ذلك فان المحاذير او الموجبات التي نراها ونتعايش معها قسراً هي في الاصل مخلفات اللاوعي واللاشعور العدائي القائم لتلك الشرائح داخل مجتمعاتنا والتي تحاول إلقاء اللوم على غيرهم في كل الازمات التي نعيشها، في حين ان الواقع والتاريخ والحقيقة تؤكد بأن الكل مساهم وبنفس الدرجة في مسببات الفشل ، وبالتالي فإن الحتميات الناجمة من ذلك والتي قلما ندركها هي ان الاسقاط بوصفه آلية حتمية من آليات الصراع، يفضي إذا تَحكّم الى الانتقام، والمُفضي بدوره الى المشاحنات العنيفة على صعيد العلاقات الاجتماعية، فكيف اذا كان على صعيد الصراع السياسي ( قاسم حسين صالح، السياسيون )،  وبالتالي فإن تفشي مشكلة الاسقاط تؤدي الى عدوان مادي في صورة جرائم، فالمواطن الذي يحمل مشاعر عدوانية نحو قياداته قد يسقط تلك المشاعر من خلال القيام باعمال فوضوية، تخريبية، دعائية  هدامة، ويهاجمهم في كل الاحوال والاماكن مستغلاً كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل ايذائهم، وهكذا تدفع تلك الحيلة النفسية لخلق مجموعات تحاول ان تنسب فشلها في واقعها الى الحكومات، فتتعامل معها على ذلك الاساس، ومن ثم يقومون بارتكاب جرائم فعلية، على ارض الواقع، فتزيد الفوضى فوضى، واللا استقر .

وذلك ما يحتم علينا أن نقف على جوهر بعض المفاهيم التي اصبحنا نوظفها لغير اغراضها، حتى اصبحنا بمنظور علماء الاجتماع والنفس مرضى حقيقيين، مما يعني ضرورة اخضاع ذواتنا للتجربة والسعي ومن ثم الأخذ بالمعايير التي من خلالها نُطلق الاحكام على الاخرين وفق منظورنا الشخصي، وأن نحاول تَقييمها بمنظور اكثر حيادي علمي، فمن منا ليس مصاباً بداء الإنكار والتشكيك بكل ما حولنا، ومن منا ليس مصاباً بمعضلة التشويه وبعبارة أدق تغيير واقع المواقف حتى تتناسب نظرتنا وحاجتنا، ومن منا ليس مصاباً بالعدوانية تجاه اي شيء ليس من مصلحتنا الشخصية، ثم آليات القمع ليست دائماً هي استخدام القوة والعسكر، انما تتضمن بالدرجة الاساس التستر ومنع المشاعر والعواطف، فبدلاً من التصالح معها والاعتراف بها، يتم معاداتها وكبتها، لتتحول الى قوة هدم ذاتية اجتماعية، فضلاً عن حالة التفكك النفسي، كل ذلك موسوم بها جباهُنا، ومتفشي في دواخلنا، ومن خلالها نحاول نحن المرضى ان نُقَيم الواقع، فتأتي تيقيماتنا سلبية دائماً، وكأن المجتمع بكل تفصيلاته جامد غير متحرك، بل الاسوأ انه يتراجع للخلف دوماً ولايتطور وليس له اية برمجة مستقبلية، فتكثر التساؤلات فينا، وتختفي الاجابات وحتى إن وجدت فإنها لاتتلائم مع مرضنا النفسي، فتظهر لدينا حالة عدم الرضا الدائمة، وإلقاء اللوم على غيرنا، وكأن بؤرة فشلنا ليست منا، انما من غيرنا.

شاهد أيضاً

(الاولاد تحت رحلة التكنلوجيا الحديثة)

نورا النعيمي التكنولوجيا الحديثة لها تأثير كبير على الأطفال، سواء كان ذلك إيجابياً أو سلبياً. …

error: Content is protected !!