يدق استشراء ظاهرة الاتجار بالبشر ناقوس الخطر في العراق، بعد أن سجلت مؤسسات حكومية ومنظمات مجتمعية ارتفاعاً ملحوظاً في معدلاتها، نتيجة الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة في البلاد.
وتظهر آخر العمليات التي قام بها جهاز مكافحة الاتجار بالبشر التابع لوزارة الداخلية العراقية قبل أيام قليلة، نجاحه في إلقاء القبض على امرأة، عند محاولتها بيع طفل رضيع في مدينة السيدية وسط العاصمة بغداد، مقابل 2.5 مليون دينار عراقي، أي قرابة 1800 دولار.
أمر وراثي
قصة هذا الطفل الرضيع ليست الوحيدة، فهو نفسه ورث الأمر عن والدته التي كانت هي الأخرى إحدى ضحايا الاتجار بالبشر، كما يبين مدير مكتب تحقيقات الكرخ في مديرية مكافحة الاتجار بالبشر التابع لوزارة الداخلية العميد وسام الزبيدي.
ويوضح الزبيدي أن خيوط الكشف عن الجريمة “تجلت عقب المتابعة لفتاة قاصر تعمل في مقهى بالعاصمة بغداد، تم ضبطها أثناء عملية بيعها وإيداعها دار الإيواء، واعترفت بوجود طفل لها أودعته عند مربية، وعند متابعة الطفل تم الكشف عن عملية بيعه وإلقاء القبض على المربية متلبسة”.
وأشار الزبيدي إلى أن الأطفال ليسوا الوحيدين الذين يتم الاتجار بهم، بل إن النسبة الكبرى من عمليات الاتجار بالبشر تتم عبر استغلال النساء، وبالأخص من هن دون سن المراهقة.
ثمن هاتف جوال
ووفقا لاعترافات المتهمة، فإن سعر الطفل الذي كانت تنوي بيعه لا يتجاوز 1800 دولار، وهو ثمن بخس يظهر مدى استشراء الظاهرة واستسهال عمليات البيع والشراء فيها، إلى حد بلوغ سعر الطفل الرضيع سعر هاتف جوال حديث، أما أغراض الاستعمال فتتنوع وفقا لعمر الضحية.
الرضيع يباع ويشترى أحيانا لغرض التبني من قبل عائلة محرومة من الإنجاب، أو في الغالب يستخدم من قبل عصابات التسول، بينما تستخدم الفتيات في أنشطة مختلفة بعد التحايل عليهن بحجج الزواج أو التهديد بالفضيحة، وهذا ما يكشفه للجزيرة نت مدير مديرية الشرطة المجتمعية في وزارة الداخلية العراقية العميد غالب العطية، الذي أقرّ بأن الظاهرة في تزايد مستمر وتشكل تهديدا على الملف الأمني في البلد.
وبيَّن العطية أن متابعة عمليات الاتجار بالبشر قادت إلى اكتشاف استغلال الضحايا في عدة مجالات، “كالتسول والتجارة بالأعضاء البشرية وتهريب الضحايا إلى أجزاء من البلد أو إلى خارجه أحيانا، أو تشغيلهم بالدعارة ومراكز المساج والمقاهي”، منبها إلى صدور أوامر مشددة لمعالجة هذا الملف والحد من الظاهرة بعد تفاقمها.
أسباب الظاهرة
ويقول باحثون إن عوامل عدة تقف وراء الارتفاع الملحوظ في معدلات الاتجار بالبشر، أبرزها الأوضاع الاقتصادية واستشراء الفقر، حيث تشير وزارة التخطيط في آخر إحصاءاتها إلى أن “نسبة الفقر تجاوزت 30% من الشعب العراقي، وبالأخص في المحافظات الوسطى والجنوبية”.
وتنبّه الباحثة الاجتماعية ندى العابدي إلى أن “تراجع الوضع الاقتصادي في البلد وارتفاع نسبة الفقر” عوامل أساسية، تنعكس بتأثيرها على العائلة ومستويات التعليم، وبالتالي تؤدي لتراجع البنية النفسية للإنسان، وهو ما يدفع رب العائلة أو المسؤول عنها إلى “الجنوح للجريمة والإقبال على تناول المشروبات الكحولية والمخدرات ومن ثم بلوغ مستوى استسهال بيع أفراد عائلته”، وهو ما ساهم في تفشي ظاهرة الاتجار بالبشر.
وأوضحت العابدي وجود عوامل أخرى مساعدة، أبرزها انتشار الفساد والرشى في المؤسسات الحكومية المؤدية إلى “التراخي في حصول المجرم على جزائه أو الإفلات من العقاب”.
ويتضمن قانون مكافحة الاتجار بالبشر عقوبات تصل إلى حد السجن المؤبد والإعدام في بعض الحالات، لكن قانونيين يرون أن عقوباته صعبة التطبيق لأسباب عدة، أبرزها اعتماد عمليات الاتجار على التحايل وخداع الضحايا، أو استغلال ظروفهم وظروف عائلاتهم، وهو ما يحتاج إلى جهد استخباري فائق لملاحقة تلك الحالات والكشف عنها، كما يوضح الخبير القانوني علي التميمي.
وأشار التميمي إلى أن “قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012، ينص على مواد وعقوبات كافية لمكافحة الظاهرة”، لكنه يؤكد أن عقوبات مواد القانون -رغم صرامتها- صعبة التطبيق، كونها تحتاج جهدا استخباريا خاصا جدا، لأنها غالبا ما تترافق مع التحايل. ويضرب مثالا على ذلك إيهام النساء بالحصول على فرص عمل خارج البلاد، ليكتشفن أنهن ضحايا عمليات اتجار بالبشر فور مغادرتهن العراق.
وكانت وزارة الداخلية قد كشفت عن وجود تحرك دولي للحد من الاتجار بالبشر، بينما أشارت إلى أن العراق ضمن التصنيفات المتقدمة في مكافحة الاتجار بالبشر.
وقال مدير العلاقات والإعلام بوزارة الداخلية رئيس خلية الإعلام الأمني اللواء سعد معن إن “الحكومة جادة في إيجاد حلول ناجعة وعملية لكل مشكلة قد تكون موجودة في المجتمع، وهناك جهود كبير لمكافحة الاتجار بالبشر”، مشيرا إلى أن “العراق شرّع قوانين بشأن ذلك، وأوجد مديرية تخصصية ضمن وكالة شؤون الشرطة التي حققت نتائج كبيرة، وخطوطها الساخنة تعمل على مدار 24 ساعة، وهناك تواصل إيجابي مع المنظمات الدولية”.
أرقام صادمة
وكانت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، قد كشفت -في وقت سابق- عن تصاعد جرائم الاتجار بالبشر، مؤكدة حدوث 300 جريمة خلال العام الماضي.
وحذّر مراقبون من تصاعد لافت لهذه الظاهرة نتيجة ارتفاع معدلات الفقر واستغلال الأوضاع الإنسانية، ولا سيما مع الإعلان عن وجود أكثر من 5 ملايين طفل يتيم في العراق وفق المفوضية.
وأشارت الباحثة الاجتماعية ندى العابدي إلى أن تفاقم ظواهر الاتجار بالبشر، والإدمان، والعنف الأسري، تظهر الحاجة لتحرك شامل لمواجهة هذه الآفات التي تهدد كيان المجتمع، مؤكدة أن “المعالجات تحتاج إلى تكاتف شامل من كل الجهات المعنية”.
وتوضّح العابدي أن أغلب تلك الحالات تحدث في المناطق التي يعيش أبناؤها تحت خط الفقر، وهو ما يلزم بتفعيل المعلومة الاستخبارية وأيضا معالجة الجوانب الاقتصادية المتردية، ومساهمة المنظمات المجتمعية والدولية في معالجة هذه الظواهر التي بدأت تنخر في جسد المجتمع.