عدنان أبوزيد
تُشكّلُ الدولُ، اللجانَ الرقابية وتسخّر القضاء، وتنظّم المؤتمرات، وتشَغّلُ الإعلام، وتطلقُ الأبواق، لمكافحة الفساد، لكن دون جدوى، بل يزداد استفحالا، ويوغِل الفاسدون أكثر في النهب وابتكار الأساليب لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.
من الدول التي نجحت في محاصرة وحوش الفساد، وقتْل مارده في القمقم، سنغافورة التي اصحبت مثالا يحتذى به في الشفافية والنزاهة.
دول أوربا الغربية معروفة بصرامتها في السؤال عن مصادر أموال الأفراد، ما يفسّر انعدام تدفق الأموال المشبوهة من الخارج، اليها، والتي تأخذ طريقها في بنوك دول تتيح للأموال المجهولة المصدر، الاستقرار فيها.
سنغافورة التي نجحت في التنمية والاعمار، لا تكتفي بإنشاء لجان مكافحة الفساد وتشريع القوانين القوية، بل قرنت ذلك بالتطبيق الصارم لقانون “من اين لك هذا”، وتوثيق مدونات سلوك الموظفين العموميين، ومحاسبتهم حثيثا، ولم تبدأ بصغار الموظفين وافراد الشعب، بل بالمسؤولين والأعيان، الأمر الذي عزز ثقة الشعب بالواجب والقيادة.
حدث ذلك في سنغافورة على الرغم من الفقر، وسوء الصحة، ونقص المساكن، والانفجار السكاني، لكن رئيس الوزراء لي كوان يو، الذي يلقبه الشعب بالمؤسس، أدرك ان التخلص من هذه الآفات سيكون مستحيلا ما لم يتم التخلص من الفساد في الخدمة العامة، اذ من غير الممكن لحكومة نخِرة وموظفي خدمة مرتشين، ان يساهموا في تطوير البلاد، ليقرر وفريقه الحكومي ارتداء القميص الأبيض، في دلالة على الحكومة النظيفة.
أضفى لي كوان يو والزعماء اللاحقون، الطابع المؤسسي في مكافحة الفساد وسنّ قانونا يُجبر المتهم إثبات شرعية أملاكه ومصدر أمواله، كما انّ اية ثروة غير مفسّرة وغير متناسبة مع مصادر الدخل المعروفة للفرد، عرضة للمصادرة الفورية، وقد زادت إجراءات الحكومة من ثقة المواطن الذي راح يُخبِر عن أي شخص أثرى بطريقة مشبوهة.
المهم في تجربة سنغافورة، انها لم تبدأ في برنامج مكافحة الفساد، من القاعدة بل من القمّة، حين وضعت كبار المسؤولين الفاسدين والنخب المشكوك في مصادر أموالها، في السجون، بعد ان تمتّعت مكاتب التحقيقات بصلاحيات واسعة، تتيح استدعاء أعلى سلطة في الدولة.
تتعامل سنغافورة، بعد ان أصبحت قطبا عالميا لجذب أموال الاستثمار، بصرامة مع المؤسسات المالية التي تحاول غسل الأموال على أرضها، حماية لسمعتها العالمية.
استمعْتُ الى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وهو يبدي اعجابه بالتجربة السنغافورية، ويبدو أنه وضع الإصبع على الجرح العراقي، في اقتفاء إثر هذا البلد الآسيوي، الذي نجح في إرساء وعي جمعي يحرث على نظام نظيف، وبات الجميع يسارع في محاربة اية ممارسات فاسدة، كلّ من موقعه، بعدما صار يقينا، ان القانون ينطبق على الجميع.
إنّ مثلا صينيا يقول: “إذا كانت العارضة العلوية منحرفة، فإن الحزم السفلية ستكون ملتوية”، لجدير بالاهتمام، لكي يبدأ
الحفاظ على المال العام، من الذروة الى الأساس، وليس العكس.