الدكتورة أيسر عبد الرحمن محمد
منذ وجد الإنسان على وجه الأرض وخلال مروره بمراحل حضارية وفكرية عديدة أدرك أنَّ بقاءه مرهون بشيئين اثنين، بالغي الأهمية، هما الغذاء والتكاثر فبدون الغذاء يموت الإنسان جوعاً، وبدون التكاثر يفنى جنسه إلى الأبد، لذلك كان للخصب ولا سيما خصب الطبيعة كوفرة المياه وكثرة النباتات والحيوانات أهمية بالغة للإنسان. إذ أنَّ المعتقدات والطقوس الخاصة بالتكوين والخصب كانت من أهم المبادئ التي أرتكز عليها الفكر الديني في بلاد الرافدين، وكان أهم ما يرمز إلى الكثرة والخصب في المجتمعات القديمة، المرأة بوصفها رمزاً للخصب والوفرة والخير والحب وموضع تقديس حتى وصلتْ قدسيتها مرتبةَ العبادة، فنرى مثلاً (إنانا) عُبدت بصفتها إلهة أنثى (بمظاهر وأشكال مختلفة)، ويعود ذلك إلى طبيعة المجتمع آنذاك، وما احتلته المرأة من مكانة اجتماعية مميزة ودورها الكبير في التصور الديني والروحي، ومن أشكال الإلهة (إنانا) إنها كانت تعبد بوصفها إلهة (مكان حفظ التمور)، وكانت هذه الوظيفة تنسجم مع طبيعة مدينة (أوروك) الشهيرة بإنتاج (التمر) البلح، حيث يرمز اسمها (نينانا) إلى (سيدة عناقيد البلح)، واسم معبدها (إيانا) أي (دار عناقيد البلح)، وتارة أخرى كانت تمثل قدرة الأمطار الرعدية في الربيع، التي كان الرعاة يعتمدون عليها من أجل الكلأ في الصحراء، وصورتها المأثورات بصور مختلفة مرة على هيئة الطائر الراعد برأس أسد وأخرى على هيئة الأسد، وثالثة كإلهة للعواصف يتصل بمظهرها كإلهة للحرب، ورابعة على أساس فلكي فهي إلهة (نجم الصباح والمساء) الذي تشكل به ثالوثاً مع أبيها (إله القمر)، وأخيها (إله الشمس)، وبهذا تكون(سيدة السماء) ومعبدها يسمى (دار السماء) أما مظهرها الخامس والأخير بوصفها حامية (لمنذورات وراعيات المعابد، فكان شكلها المعبر عن الحكمة هو كل (البومة) التي تخرج عند الغسق، وسميت (نينا) أي (السيدة البومة) وفي الأكدية (كيليلي). هذا يعني أنَّ عبادة الإلهة الأنثى إشارة إلى أنَّ المرأة والأمومة كان لهما قسط من التبجيل والتقديس ولاسيما الأمهات اللواتي كان لهنَّ دور في مجلس (تقدير الأقدار) المقدس.
من الجدير بالذكر أنَّ المعابد في وادي الرافدين كانت تضمُّ أصنافاً من الكاهنات والكهان من مراتب مختلفة، وكانت (الانتو) الكاهنة العظمى تأتي في المقدمة لأنها تعدُّ من الوجهة الدينية زوجة للإله ومعنى اسمها في السومرية (السيدة الإلهية) دلالة على مشاطرة المرأة بقية الآلهة سيطرتهم على الكون وكأنَّ مسؤولية إدارة ذلك الكون للإلهات والآلهة على وفق إيقاع حيوي يتفاعل فيه الإنسان مع الطبيعة.
حقوق المرأة في المجتمع السومري
تمتعت المرأة في المجتمع السومري –إلى جانب قدسية مكانتها بين الآلهة– بجملة من الحقوق تكشف عملية تنظيم العلاقات الاجتماعية منها حرية اختيار الزوج ولاسيما في المناطق المستقرة (الحضرية والريفية) بما يكشف عن المفهوم الاجتماعي للزواج، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- في حالة زواج الفتاة تحتفظ لنفسها بما يقدمهُ لها والدها من بائنة (مهر)، كحق محفوظ لعاديات الزمن.
2- لها على أولادها ما لزوجها عليهم من حقوق.
3- في حالة غياب الزوج لها صلاحية وحرية إدارة البيت والمزارع وشؤون الأسرة.
4- مساعدة الزوج في الأعمال التجارية إنْ استطاعت ذلك (تعاونه).
5- حرية ممارسة الأعمال التجارية مستقلة عن الزوج بـ (رأسمال مال) خاص بها.
6- حقها بالاحتفاظ بعبيدها أو منحهم الحرية.
7- للمرأة حقها في تسمية من يرثها بعد وفاتها (في الوصية).
8- تسمو منزلتها أحياناً، لترتقي إلى مستوى الملك، فتحكم حكماً عادلاً رحيماً قويا مثل الملكة (بو – آبي)، هذا بالإضافة إلى أنَّ بعض النساء شغلن منصب الكاهنة في معبد سين مثل زوجة(ميسانيدا باذا) الاوري.
أما إذا ضبطت المرأة متلبسة بالزنا فإنَّها لا تقتل، بل يسمح لزوجها الزواج بأخرى بعد أن خسرت الزوجة الزانية مكانتها السابقة.
ولعل ما يلقي الضوء على فكرة الارتباط عند السومريين واختيار الزوج، إيراد قصة (إنانا) وهي تفاضل بين الفلاح و الراعي إذ تروي المأثورة أنَّ الفلاح (أنكيمدو) والراعي (تموز) قدما لطلب يد (إنانا) وهي عذراء في سن الزواج، ولا سيما الحوار الذي دار بينها وبين أخيها إله الشمس (أوتو) بما يكشف حق المرأة في اختيار شريك حياتها من غير إكراه، ناصحاً في قوله:
“عليك بالراعي زوجاً يا أختاه.
لم الإعراض عنه، يا إنانا العذراء؟
طيب زبده، وطيب لبنه،
وكل ما ينتج الراعي لذيذ.
عليك بدموزي زوجاً، يا إنانا”.
نجد أنَّ إنانا تختار الزواج من الفلاح لأنهُ يمثل المدنية باستقرارها وثباتها بينما يمثل الراعي قيم البداوة (الصحراء) فهو في تنقل دائم من أجل الماء والكلأ.
في قصة أخرى نجد الإله (دموزي) الراعي، يخطب (إنانا)، فيحظى بقبولها والزواج بها، إلا أنَّ (إنانا) تقرر النزول إلى العالم السفلي (الأرض التي لا رجعة منها)، وبعد أن تلبس أجمل ثيابها وأغلى حُليها، تنزل إلى العالم السفلي مختفيةً عن سطح الأرض، فماذا كانت النتائج؟ لقد ذوت الأرض وذبلت الحياة واختفى الحب، لأن (ايرشكيجال) إلهة عالم الأموات وأخت (إنانا) الكبرى وعدوتها اللدود، قررت أن تحبس إلهة الحب والخصب والحياة.
ولكن بعد ذلك توافق (ايرشكيجال) على عودة (إنانا) إلى سطح الأرض ليعود معها الخصب والنماء والحياة (أسباب الحضارة) شرط أن تقدم بديلاً عنها، فوقع اختيارها على زوجها (دموزي) ليبقى حبيس ذلك العالم الموحش نصف العام (الخريف والشتاء) وفي النصف الآخر تفديه أخته (كشتن – أنا) ليعود هو إلى الأرض والعالم ويعود معهُ الخصب والكثرة والرخاء والخضار (في الربيع والصيف) من كل عام.
إن هذه الأسطورة تنم عن القلق الإنساني المشروع بسبب التصادم بين نزعة حب البقاء والمصير والموت، إنهُ جدل الحياة والسعادة، والموت والفناء ما دامت الحياة تجربة إنسانية والموت بعض منها وعلى الإنسان أنْ يحقق انسجامه معها، وبذلك تحولت نظرتهُ إلى الموت من التشاؤم إلى التفاؤل فعلى الرغم من فكرة (الموت والفناء) يعمل الإنسان ويبني ويشيد الحضارات.
يتضح مما سبق الدور الذي لعبتهُ المرأة في المجتمع السومري ومكانتها في فكرة عقيدة الخصب عندهم ولاسيما في دورتهِ الطبيعية السنوية التي تتجدد مع كل ربيع بدورة حياة جديدة، فكانت المرأة منذ أقدم عصور التاريخ، وفي مختلف الحضارات التي تعاقبت على مراكز التجمع الإنساني تشكل محوراً مهماً وتفصح عن مكانة لا تقل أهمية عن مكانة الرجل، حتى بلغت في بعض العصور أرفع المراكز التي ينالها الإنسان وهو المُلك (صاحب السلطة) على مقدورات البشر والمجتمع والدولة في هذه الربوع، وتبقى (المرأة) هي صورة ذلك الواقع.
المصادر المعتمدة:
ـ فاضل عبد الواحد علي: عشتار ومأساة تموز.
ـ هاري ساكز: عظمة بابل، ترجمة عامر سليمان إبراهيم.
ـ علي حسين الجابري: الحوار الفلسفي.
ـ عبد الله المراغي: الزواج و الطلاق في جميع الأديان.
ـ ثوركيلد جاكوبسن: ما قبل الفلسفة (الجزء الخاص بوادي الرافدين)، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا.
ـ صموئيل نوح كريمر: من ألواح سومر، ترجمة طه باقر.
ـ طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج 1.