جوتيار تمر/ كوردستان
يقول نايف عبوش في مقال له بعنوان الكبسلة والانحلال الاخلاقي: بات الكل يدرك خطورة انتشار ظاهرة المخدرات والكبسلة في اوساط الشباب مؤخراً، حيث تكمُن خطورتها كما يعلم الجميع في انها تلقي بظلال تداعياتها السلبية – التي تتنافى مع الآداب العامة – على المجتمع ككل، وليس على المدمن بتعاطيها فحسب، حيث يخسر المجتمع بالانحلال القيمي، ضياعَ شبابه المدمن، بهدر طاقتهم الكامنة، في حين يفترض تفجيرها في مجالات نافعة.
ومع ارجاعه-عبوش- وارجاع الكثير من الباحثين المتخصصين اسباب انتشار تلك الظاهرة في مجتمعاتنا الى ضعف الوازع الديني من جهة، وانتشار التكنولوجيا من جهة اخرى، فضلاً عن ضعف البنية التربوية التعليمية، وانهيار القيم الاسرية وتفكيكها، وتلاشي دور الاعلام الايجابي، فاننا بحق امام اشكالية اكبر من تلك المسببات، والتي اتفق معها على انها من اسباب الانحلال الاجتماعي الذي باتت مجتمعاتنا تعيشها وفق نمطية ممنهجة ومدروسة، هدفها ابقاء الشباب والطاقات ضمن دوائر التيه والضياع على المستويين الذاتي والاجتماعي، وبعبارة ادق، فان المسببات الاكثر ايلاماً ليست فقط في غياب تلك الاسباب المذكورة فحسب، انما انحلال المجتمعات تبدأ بانحلال القيم الاساسية في بناء المجتمعات وضياع مقوماتها، بمعنى عدم اعتماد آلية بناء المجتمع الناجح، يقول جابر العماني في مقال له بعنوان المجتمع الناجح : المجتمع هو اكبر مجموعة بشرية تمتاز بالعلاقات الواسعة من جميع النواحي المختلفة، وحين نريد تطوير مجتمع لابد ان لا نكتفي بالبحث عن حقيقة الافراد باتجاهاتهم الخاصة، انما يجب البحث عن الافراد الذين سخروا امكانياتهم وتوجهاتهم، من اجل صناعة المجتمع الناجح المهتم بالمصلحة العامة، التي من خلالها يستطيع الجميع ان يرتقوا بالمجتمع، ويجعلوه مجتمعاً ناجحا واعياً، بعيداً عن الانزلاقات والانحرافات الفكرية والنفسية.
وبذلك يمكن تلخيص احدى اهم الركائز في المجتمع الناجح ” العدالة الانسانية” باعتبارها شاملة للجميع للحاكم والمحكوم، للغني والفقير، للقوي والضعيف، فان اردنا جني ثمار وجودنا في دوائر اجتماعية محددة لنا، فالعدالة نظام اقتصادي اجتماعي رائع وراقي، دائما الهدف منه هو ازالة الفوارق الاقتصادية بين طبقات المجتمع، حتى ان كنت رافضاً لنظرية الطبقية، الا انها نظرية لامناص منها في ضوء الانسان نفسه، الذي حتى في سعيه لخلق انموذج اشتراكي يبقى يعيش تحت مظلة الحاكم والمحكوم، واصحاب السلطة والعاملين لتنفيذ مخططات السلطة نفسها.
فحين يحدد احد المختصين ” ظاهر محسن هاني الجبوري” مقومات المجتمع يرتكز على في رؤيته على بعض المقومات تلك والتي يقصد بها الركائز او الاسس التي يرتكز عليها البناء الاجتماعي للمجتمع، واذا ما وجدت مثل تلك المقومات فان المجتمع يظهر للعيان، ويتمكن من القيام بالعمليات الاجتماعية وينمو ويتطور ويكون قادراً على اشباع احتياجات افراده واقامة علاقات مع المجتمعات الانسانية الاخرى، وتصنف مقومات المجتمع الانساني الى نوعين اساسيين، الاول: المقومات التكوينية، اي العناصر والعوامل التي ينبغي ان تتوفر في اي مجتمع او تجمع بشري لكي يتحول ذلك المجتمع من شكل غير منظم الى شكل منظم، وتتمثل بالارض والسكان والضوابط والقيم الاجتماعية، واللغة والتاريخ والمصير المشترك او الاهداف المتبادلة، اما الركيزة الثانية : فهي المقومات الوظيفية باعتبارها مجموعة الانساق الموجودة في المجتمع والتي تؤدي اغراض محددة، وبتكامل تلك الانساق يتكون البناء الاجتماعي او النسق الاجتماعي او النسيج الاجتماعي وتتحدد خصوصياته، ويحددها الجبوري في ” المقومات الدينية ، السياسية، الثقافية، الاسرية، الاقتصادية، العسكرية…الخ” ، فضلاً عن مقومات جغرافية، سكانية ديموغرافية، وحضارية.
حقيقة امام تلك المقومات نجد انفسنا في عجز تام، ليس في تحقيق مرتكز واحد من تلك المرتكزات فحسب، انما في فهم وهضم آليات وموجبات ومفاهيم وحقائق تلك المرتكزات والمقومات، فدينياً، تحولت الاديان الى بؤر تستقطب المتشددين لخلق انموذج خارج عن الاطر الانسانية في تعاملاتها، لاسيما في محاولتها لدعم وتثبيت عقائدها الساعية لفرض السلطة بالقوة والارهاب والتفجير وقطع الرؤوس والسبي وأسواق النخاسة، او ما يمكنه عده بمفهومهم الترهيب والترغيب، في حين اتجه البعض الى مسايرة السلطات العلمانية ودعمها بدعوى الحفاظ على كيان الامة وعدم التسبب في التفرقة فتصبح الامة معرضة للغزو الفكري والعسكري والاقتصادي من قبل اعدائها، فاصبحوا وعاظاً للسلاطين بتعبير “علي الوردي” ، وبلاشك ما بين التيارين هناك فرضية التيه التي يعتنقها بعض الشباب العدمي الرافض والمعارض لكل شيء، وبالتالي اصبحنا نعيش ضعفاً ووهناً واضحاً في المرتكز الديني الذي كان بامكانه ان يكون مقوماً اساسياً في ضبط المجتمع اخلاقياً.
اما المرتكز السياسي، فحالة اللاسياسة التي تتبناها السلطات الحاكمة في مجتمعاتنا كفيلة بان يترك الواعي مجال السياسة اجمالاً، وحين اقول اللاسياسة فانا اقصدها بكل تمفصلاتها ودلالاتها التي قد لاتعجب الكثيرين ممن يدعون بانهم ساسة وسادة واحزاب عريقة ضحت وقدمت الكثير للوطن والامة والشعب وللارض ، ذلك كله اجمالاً مبني على مرتكز الخيال الجامح لتلك العينة التي تدعي السياسة، فاي شخص حتى وان لم يكن مختصاً او معنياً بأمور ادارة الدولة او ادارة المؤسسة السياسية يمكنه التعامل مع الواقع السياسي كهولاء المدعين بكونهم ساسة وسلطة، وحتى لانكون مجحفين نرشق الاخرين – المدعين – زوراً وبهتاناً ،يمكننا الاستدلال على بعض الحقائق التي ساهمت وتساهم لحد الان بانحلال المجتمع، فبإعتقادي ان الانحلال الاجتماعي يبدأ بانحلال السياسة، لأن السياسة والتي هي السلطة حين تتحول الى اداة جمع وتهويل وترهيب حينها ينفلت الخيط الاول لركائز المجتمع، ويبدأ بالانحلال تدريجياً، والعينة السياسية المدعية التي نمتلكها في مجتمعاتنا خير شاهد على اواصر العلاقة بين الانحلال واللاسياسة، عدم وجود رؤية واضحة المعالم، عدم وجود خطط لانتشال المجتمع من هاوية الاختناق سواء المادي المعيشي او النفسي او الفساد الاداري، او تسلط فئات غير واعية جاهلة بامور السياسة على فئات المجتمع المثقفة والمنتجة والواعية، فضلاً عن استعباد الطبقات الاخرى العاملة، وبالتالي خلق انموذج مستهتر ومبتذل في آن واحد، يتحكم بموارد الشعب، يتحكم بافكاره، يتحكم بمعيشته، يتحكم بطموحاته، يتحكم بآليات الاقتصاد، يستخدم اساليب الترهيب والشدة والقسوة والاضطهاد في التعامل مع اشكالياته الداخلية في حين يكون كالنعجة المسالمة ام ألد اعدائه وذلك لكسب ودهم ودعمهم لبقائه على كرسي السلطة على حساب مكتسبات الامة وقضيتها العادلة، وفي المقابل يدعي في شعاراته المثالية – المثالية المتعالية – بانه انموذج يواكب التطورات على الساحة العالمية – العولمة – لاسيما في بناء المشاريع والعمارات والناطحات والطرقات وغير ذلك التي تؤكد مقولة الاسمنت قبل الانسان، كل ذلك فرض انموذجاً جديداً لانحلال المجتمع تحت مدعيات لاقيمة لها ام قيمة الانسان نفسه، باعتبار ان الوجود يستمد اهميته من وجود الانسان فيه، والا فليكن للمريخ قيمة للكادحين والموظفين والساعين لحياة هادئة هانئه ملائمة لكينونتهم الانسانية، وعلى هذا الاساس فاننا امام الداعم الرسمي- الساسة – للانحلال الاجتماعي، فلا انحلال بدون انحلال سلطوي غائب عن معاناة الاجتماع، غائب عن فهم نمطية الحياة ، غائب عن ملامسة مشاكل الاجتماع – القاعدة الجماهيرية – غائب عن القيام بمسؤولياتها تجاه مشاكل المجتمع.
اما المرتكزات الاقتصادي، والذي هو عمود الوجود ليس لمجتمع واحد فحسب انما للمفهوم الكوني البشري، فاننا في مجتمعاتنا امام انموذج هزيل للاقتصاد يعتمد على آلية مستهلكة، لايستفيد منها سوى القوى المتسلطة على رقاب الشعب والامة، فحولت الارض الى مستعمرات تتنافس عليها الشركات وتستخرج مواردها الاولية والتي هي ركيزة الاقتصاد الفعلي للمجتمع، متجاهلين تماماً القيم الاخلاقية التي تربطهم بفهم وادارك معاناة الشعب ومبتعدين عن اتباع الخطوات الناجحة لجعل الاقتصاد نقطة تحول في بناء المجتمع الناجح يقول Joey Potrykus: يركز الاقتصاد الناجح والمتقدم على النمو الأخلاقي والبيئي والاجتماعي، كما أنه يحافظ على تنمية وتطوير جوانب الحياة جميعها الخاصة بالفرد، فالاقتصاد الناجح لا يقتصر فقط على الانتاج والاستهلاك، بل يسعى إلى توفير ثقافة سلوكية صحية للمواطنين، وبالإضافة إلى ذلك فهو يركز على زيادة رفاهية المواطنين بشكل مستدام، والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للدولة ” ، وبمقارنة بسيطة عن المفهوم المطروح، والواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا،سنلاحظ حجم الهوة بين مفهوم الاقتصاد الناجح، والاقتصاد الانتقائي المصلحوي الساعي لدعم اصحاب الشركات والسلطة والساسة المدعين على حساب القاعدة الجماهيرية من جهة، وعلى حساب الدولة – الاقليم – من جهة اخرى، وبالتالي تحول الاقتصاد في مجتمعاتنا الى اداة انحلال مساهمة في ضياع الشباب وهدر طاقاته في اللجوء الى الهجرة من جهة، أو اللجوء الى براثين ما ينسيه وجوده ضمن دوائر وجغرافية تلك السلطات الساعية لهدم كل قيم الانسان الانسانية من جهة اخرى، وبالطبع المخدرات والمشروبات والدخانيات وغير ذلك هي وسائل متاحة تساعد السلطات الحاكمة على توفير تحت شعار رفاهية المجتمع وتطوره، والحقيقة الشعار الامثل هو ابقاء الطاقات والطموحات مدفونة وهدرها وعدم فسح المجال امامها لرفع صوتها، وذلك يدعم فرضيتنا القائلة بان الانحلال يبدأ من السلطوية.
وفي المجالات الاخرى او الركائز والمقومات الاخرى، كالثقافية التي تعتمد تماماً على الانصياع الاعمى للتقليد الخارجي بكل مجالاته وعدم وجود اية ابتكارات وابداعات داخلية نابعة من صميم المجتمع وبدعم اساسي من الساسة، اقصد بسبب تلك الآليات التي تتبعها السلطات سواء في مناهجها التعليمية او التربوية، وعدم حضنها للطاقات والابداعات وتنميتها، الامر الذي اثر سلباً على بنية المجتمع المفكك اصلاً بسبب جهالة التعامل مع القيم الاسرية الناجحة، وضياع القيم الاسرية لاسيما في تعاملات الاهل مع الاولاد والاولاد مع اولياء الامور، وابتعاد الطرفين عن الاخلاقيات اللازمة توفرها لتماسك الاسرة، ومسائل الزواج والطلاق والضغوطات الاسرية في ذلك المجال، كلها امور لايمكن فصلها عن البنى الاساسية في بناء المجتمعات والمتعلقة بالدرجة الاساس في توفير بيئة ملائمة آمنة مستقرة، بعيدة عن النزاعات المذهبية الطائفية الدينية السياسية الحزبية، والمصالح الاقتصادية النخبوية، وفي المجال العسكري تشتت القوة العسكرية بين ولاءات مذهبية طائفية حزبية وفق اجندات مفروضة عليها مسبقاً من الجوار الحالب لخيرات البلد سواء بدعم الفوضى السياسية أو الفوضى المذهبية الدينية او الفوضى الحزبية، فاننا امام ممر سالك اخر مساهم للانحلال الاجتماعي، فضلاً عن ذلك فان المجالات الاخرى التي ذكرنها كالجغرافيا ايضا تساهم بشكل مخزي لانحلال المجتمع، وبالطبع ليس العيب في الجغرافيا نفسها، انما في توظيفها وفق آليات لاتدعم الاستمرارية سواء الاستمرارية المعيشية لفئات المجتمع بصورة عامة، دون المساس بالفئوية السلطوية التي مثلاً تتبنى سياسة البناء العشوائي غير المنظم والمؤثر سلباً على معيشة العديد من مكونات المجتمع سواء بفرض واقع مخزي عليهم وترهيبهم على عدم الاعتراض لتلك المساعي البنائية الانتقائية السلطوية المصلحوية او من خلال احجام حقوق الناس في العيش بكرامة في بيوتهم وذلك باقامة مشاريع خاصة لجهات خاصة لافراد خاصة في مناطقهم غير المؤهلة لتلك المشاريع، فيصيب الشلل بذلك جميع بنى ومكونات الشعب والارض والامة، وتتجه تدريجياً بكل بخطى متسارعة الى مراحل الانحلال النهائية، فيخسر الانسان نفسه، ويلجأ الى كل ممكنات التيه والضياع للابتعاد عن ذلك الواقع المخزي والمذل لانسانيته.
وذلك ما يجعلنا نتوصل الى مقولة ان الانحلال يشكو من الانسان، لانه الانسان المصلحوي اللاواعي اصبح يشكل تهديداً واضحاً على مفاهيم الانحلال نفسها، قبل ان يكون تهديداً على نفسه وجوده وارضه وشعبه وخيراته وموارده الطبيعية وقيمه الاخلاقية ،ونزاعته وطموحاته في خلق انموذج متطور متمكن من نفسه وواثق من ادواته وامكانياته وطاقاته على الخراب المسمى الارض.