دنيا علي الحسني
قليلون هم الذين تمكنوا من تغيير التاريخ ومنهم الألماني فريدريك هيغيل، أنه من هؤلاء القلة من خلال تأثيره على الفكرة الوطنية الألمانية. وبشكل غير مباشر عن طريق ابتداع نظام اجتماعي جديد ، ومن أبرز طلابه كارل ماركس، وما نعيشه اليوم من ظروف بخيرها وشرها ما هي إلا انعكاس لأفكار هيغيل. حيث أن نظرته الثاقبة ودراسته للتاريخ بطريقة لم تكن مألوفة من قبل، فقد غيرت الهدف من دراسة التاريخ نفسه. وأصبحت فلسفته لاحقا أداة في متناول الكثيرين، ليصنعوا منها أيديولوجيتهم الخاصة، فهو فيلسوف الفلاسفة أن صح التعبير. لأن كل شيء كتبه كان أسلوب تجريدي وضع لمن بعده المنهاج الذي يعملون عليه، وربما في هذا البحث سنتمكن من إيصال جزء من فكرته، لكي تتغير نظرتك اتجاه التاريخ وتقلباته. حيث اتفق هيغيل مع الفكر الرومانسي السائد آن ذاك، بأن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من فكر زمانه. كل ما تفكر به وكلما يؤثر بك ما هو إلا نتاج تأثير ثقافة المجتمع والتاريخ فيك. فأنت لا تستطيع أن تفكر مثل أنسان عاش قبل مئة سنة، ولا مثل الذي يأتي بعدك بمئة سنة. لكن هيغيل أضاف إلى هذه الفكرة قوله ( أن الزمن له تأثير على العلم والفلسفة) انها جملة خطيرة ، لا تستطيع أن تضع قانونا أو تشريعا أو حتى فلسفة، تلائم كل الأزمان. بل يجب حصر أفكارنا لكي نعالج مشاكل عصرنا . ومع تقدم الزمن من الممكن لأي فكرة، مهما كانت صحيحة أن لا تلائم الأجيال اللاحقة، مالم تعدل أو تستبدل بأخرى. وبالتالي يستنتج هيغيل: بأن لا توجد هناك حقيقة مطلقة بل أفكار تقترن بعصورها. يقول هيغيل: (الفكرة التي تزوجت هذا الزمن ستكون أرملة الزمن القادم)،( الفلسفة هي الزمن نسخت على شكل أفكار) بما أننا مقيدون بزماننا ولكي نفهم أنفسنا ومصدر أفكارنا فعلينا بدراسة التاريخ.
“دراسة التاريخ”
هيغيل يطرح هذا السؤال : هل التاريخ عبارة عن أحداث عشوائية؟، أم أن هناك نمط ما فيه؟ لأن التاريخ اذا كان عشوائيا فلا فائدة لنا من دراسته. لكن هيغيل يعتقد أن هناك نمط يكرر نفسه عبر الزمن، بالدراسة والتمعن الجيد، ممكن ايجاد ما يسمى، “بقانون التطور التاريخي”. وقد قرر هيغيل وعقد العزم على نفسه اكتشاف هذا القانون . والإجابة على هذا السؤال : ما الذي يتسبب بالتغيير في التاريخ؟ ربما نحتاج أن نضع بحسباننا أسلوب نظرته للتاريخ .كل مرحلة تاريخية هي النتاج المنطقي للمرحلة التي سبقتها. ولكن على عكس ما أعتدنا عليه التاريخ لا يعيد نفسه حسب هيغيل، وحتى الاحداث التي تكررت لم تكن مركز اهتماماته، اعتقد هيغل أن كل جيل مميز عن سابقة.
“التغيير حسب هيغيل”
التغيير يأتي من المفاهيم الجوهرية للمجتمع. أدرك أنك ترى هذه الجملة غامضة مثلي أنا عندما قرأتها أول مرة، ولكن لتسهيل الفكرة اعطيكم مثالا من التاريخ وهو موضوع بحثه هيغيل بتمعن. السياسة وكيفية تأثيرها على تركيبة المجتمعات؟. في بداية البشرية كان هناك “اللاقانون” كل ما يفعل ما تهواه نفسه، ما لذي يتطلب الأمر؟. فقط أن تكون قويا أو تكون لك قبيلة لكي لا يحاسبك أحد، تحتاج إلى قوة أو سند لكي تفعل ما تشاء. في المرحلة الثانية هناك فرض السلطة أو القانون عن طريق التسلسل الهرمي، مسؤول عن قرية، مسؤول عن مدينة، مسؤول عن مقاطعة وهكذا. أما المرحلة الثالثة، حسب هيغيل هي ما سماها سيادة القانون حيث المعنى أن القوانين هي كلمة الفصل في المجتمع يقول هيغيل: أن هذه المراحل المتعاقبة الثالثة اللاقانون – الهرمية – سلطة القانون- لن تحصل من العبث بل هي ترجمة للمفهوم الجوهري للرغبة في الحرية. وهذا تفسير الجملة السابقة التي لم نفهمها قبل قليل، التغيير يأتي من المفاهيم الجوهرية للمجتمع ولكي تصل الفكرة إليكم مفهوم الحرية.
“ماهي الحرية” ؟
الإجابة بسيطة هي أن تفعل ما يحلو لك، وهذا ما كان يراه هيغيل حول مرحلة اللاقانون. اذا لم تكن هناك حكومة فالكل أحرار فيما فيعلونه. لكن هذه الحرية بهذه الصيغة لم تكن كافية أعطيكم هذا المثال: المرحلة الاولى/ لكي أوفر لنفسي طعاما علي أن أزرع الأرض في الربيع والصيف والخريف، لكي أومن لنفسي وعائلتي الطعام لفترة الشتاء. وفجاءة في الشتاء تأتي مجموعة من الأشداء يهددون بقتلي أو يأخذون المحاصيل التي أجهدت نفسي لتأمينها. ماهي نتيجة هذا الفعل بتأكيد لن أزرع في السنة القادمة، لماذا ازرع واكدح ليأخذه غيري بدون تعب، هذه ليست الحرية المنشودة حسب هيغيل. مادام هناك اغتصاب للحقوق من قبل أي شخص هذه حرية فردية على حساب الاخرين. بالعكس يذهب هيغيل الى وصف هذه المرحلة بالاحرية.” الحرية المطلقة معناها لا حرية”. أي حرية من الظاهر لكنها ليست حقيقية. لذلك تكون لدينا الحاجة الى مرحلة جديدة مضادة، للحد من التناقضات. “كل ما سبق يجب أن يلغى بسبب التناقض” فبدل مرحلة اللاقانون السائد في المرحلة السابقة، هناك تطبيق صارم للقوانين. لأنها حرية من نوع آخر لا أحد يمكنه أخذ ثمار جهدي بعد الأن، أستطيع أن ازرع أرضي وأنا متأكد لا أحد يمكنه سلبها مني. يشترط للقانون هناك يد تطبقه مثل الشرطة والقضاء وليس فقط حبرا على ورق. والمرحلة الثانية الهرمية لا حرية فيها أيضا، لأن الهرمية في السلطة معناه لدينا رؤساء كثيرون. اذا أراد مني الحاكم أن أعطيه قسما من محاصيل أرضي فعليه أن أرضخ له، هو يقدم لي حمايته ولكن يستغلني بطريقة أخرى. ربما يصبح هذا الالتزام ثقيلا وصعب الإيفاء به، الحاكم الذي منحني الحرية بقوة القانون، أصبح يسلبها مني بطرق أخرى. لذلك الفكر المضاد في هذه المرحلة أصبح أيضا تناقضا في حد ذاته والتاريخ، سيفرض نفسه مرة اخرى لعلاج هذا التناقض. نصل إلى المرحلة الثالثة حيث ستكون هناك مصالحة بين المرحلتين الاولى والثانية. بالمناسبة المرحلة الأولى تسمى الطريحة “thesis” المرحلة الثانية تسمى النقيضة “antithesis” اما المرحلة الثالثة تسمى النتيجة “synthesis” المرحلة الثالثة ستمتلك الصفات الجيدة للطريحة والنقيضة والتخلص من سلبياتهما. بالعودة الى مثالنا الذي طال شرحه!. ايجابية المرحلة الأولى هي أنني
أمتلك حق مصيري، ايجابية المرحلة الثانية هي أن القانون يحميني، حينها المرحلة الثالثة هي العصر الحديث، حيث هي الحرية المنظمة بقوانين. ولذلك حسب قانون هيغيل أن ما ساق التغيير عبر السنوات هو الرغبة في الحرية، ماهية الحرية وكيفية صياغتها أو تطبيقها. كانت مصدر الاختلاف في الفكر عبر الأجيال، اللاحقون يفسرون على أنها الديمقراطية. لكن هناك شك في كونها ما اراد أن يصل اليها هيغيل، وهذا فيما يقوله هيغيل “نتعلم من التاريخ أن البشر لا يتعلمون شيئا”. لكن السعي الى الحرية يتطلب ما اطلق عليه هيغيلGeist – – ترجمة الكلمة تشير إلى الروح والعقل أستطيع أن أضعها في تصور روح الأمة، الفكر الجماعي لأفراد المجتمع، الذين يتشاركون نمط معين من الرغبات. أي أن لكل أمة روح تسوقها وهي تتمثل في تطلعاتها. فأن كانت الأمة تتطلع الى الحرية فأن الأخيرة هي التي تسوق التاريخ. أعتقد أن مصطلح “Geist” – يمثل البعد المصطلح الميتافيزيقي لهيغيل “الرغبة في الحرية تغير مجريات التاريخ”. لكن كل هذا لا يدركه أصحاب ذلك التاريخ بل هو ما استنتجناه مما ندرسه نحن عنه. لتوضيح أكثر الصراع في زماننا هذا لم نفهمه نحن، بل الأجيال اللاحقة عن طريق دراستها ما مررنا به . كما يقول هيغيل “مجرد الطيبة لا تكفي للصمود امام قوة الطبيعة”.
“بعض من قناعات هيغيل”
من بعد هذا الكلام يجب توضيح بعض الأفكار التي كان يؤمن بها هيغيل. أن التاريخ عبارة عن تقدم من جهل الى معرفة، والتاريخ يتوجه نحو العقلانية. من فكر منطقي الى منطقي أكثر، لأن التوجه العام الى العقلانية، لم يؤمن هيغيل بفكرة الكمال في البشر. أي مهما حصل من تقدم وتحضر لن نصل الى مرحلة المدينة الفاضلة. لاحظ هذا عندما عاصر الثورة الفرنسية، حيث وجد أن عقلنة كل شيء أمر مستحيل بل هو جنون. وهو ما أدى الى فشل الثورة في عدة جوانب، مهما كانت نتيجة الطريحة والنقيضة فأنها ستكون طريحة في المراحل المقبلة. لن تتوقف عجلة التاريخ. “التاريخ يتوجه نحو العقلانية لن نصل الى مرحلة الكمال “النتيجة” ستكون “طريحة”. اعتقد هيغيل انه مهما تمكنا من فهم التاريخ والطبيعة البشرية فان التنبؤ بالمستقبل هو شبه مستحيل. تستطيع أن تضع بعض التخمينات، لكن لن تتمكن ابدا من تصور ما سيؤول إليه التاريخ بالشكل الدقيق.”لأن المتعلم يبدأ دائما بإيجاد العيوب والدارس يجد ايجابيات في كل مرحلة”.
“اعتقادات خاطئة عن هيغيل”
ما تكلم عنه هيغيل الطريحة والنقيضة والنتيجة تسمى بالجدلية أو جدلية هيغيل. لكن المثير للاستغراب أنه لم يقدم فكرته بأسم الجدلية، ولا عرف المراحل الثلاثة بهذه الصيغة. بل هي أسماء جاء بها مفكرون من بعده، وهنا تحوم الشكوك حول ما اراد هيغيل ايصاله من جهة. وما حاول طلابه فهم كتاباته وطرحه من جهة أخرى. وكيف أن هناك انقسام في المفكرين اللاحقين حوله. في هذه المرحلة نجد اختلاف كبير في الآراء. حيث أنقسم المفكرون حول منهاج هيغيل كل من يفسر على هواه. هناك هيغيله يمينية وهيغليه يسارية تذكرني بالمذاهب التي تظهر بعد انتهاء الرسالة الدينية للرسل والانبياء.فمن يدرس هيغيل لوحده سيدرك أن منهاجه ينسب مفهوم الحرية مع النظام السائد في بلاده المملكة البروسية اللوثرية أي أنه الفاشي لحد ما.
“الجدلية تؤدي الى الوطنية و الديمقراطية ”
تحدث المعاصرون على أن جدلية هيغيل، كانت النتيجة المنطقية والحتمية تؤدي الى الديمقراطية. حيث أن كارل ماركس استخدم الجدلية لكي يتوصل الى حقيقة مفادها أن صراع الطبقات الاجتماعية هي النتيجة الحتمية للجدلية. هناك بعض من الامثلة يمكن أن ننسبها للجدلية. في روسيا القيصرية كان هناك دين، في روسيا الشيوعية كان هناك رد للدين، أما روسيا المعاصرة اليوم فهي الموازنة بين الدين والمدنية. في فرنسا كذلك مملكة ذات أسس دينية، ثم الثورة العلمانية لتنهض الجمهورية الأولى المنقلبة تماما على سابقتها. ثم لاحقا الجمهورية الخامسة المعتدلة. الصين كذلك كانت امبراطورية ثم انقلبت شيوعية، لكنها اليوم معتدلة أكثر هذه الأمثلة عبارة عن اجتهادات، ربما تكون دقيقة ربما لا لكنها طريقة متبعه للنظر في الماضي. ونشبه الجدلية أنها مفتاح صوامل تستطيع فتح وغلق ما يحلو لك في مجال- السياسة الاقتصاد- الدين – لذلك يمكن أن نستخدم الجدلية في أمور تلاحظها في الحياة. السؤال موجه اليك هل يمكن أستخدام الجدلية في دراسة طبيعة الدول العربية هل لأمتنا “Geist” أم أنه غير جائز لطرح هكذا سؤال؟ ماهي طبيعة الصراع في منطقتنا بناء على منهاج هيغيل؟.