التنوع الثقافي والعرقي وجسور الثراء الحضاري للإنسانية

دنيا علي الحسني

يشكل وضع الثقافة في صميم سياسة التنمية استثماراً أساسيا ً في مستقبل العالم وشرطاً مسبقاً لعملية عولمة ناجحة تأخذ بعين الأعتبار مباديء التنوع الثقافي، على قاعدة تكوين البشر أو ما يسمى بالمركب البيولوجي هو واحد متجانس ولكن العادات والتقاليد والقيم والأخلاق والدين وما يسمى “الثقافة ” هي التي تفرق المجموعات البشرية في ما بينها وتميز بعضها عن بعض، وعبر عنه البيان الثالث لمنظمة اليونسكو حول العرق بتاريخ -18 اغسطس- 1964، يقول أن شعوب العالم تملك إمكانيات بيولوجية متساوية تؤلها للوصول إلى مستوى حضاري، أما الفوارق في منجزات الشعوب المختلفة فيجب ألا تعاز إلى تاريخها الثقافي، أن الثقافة ليست صيغة المفرد بل هناك صيغة الجمع، تختلف حسب تاريخ كل جماعة والأمثلة عن التعدد الثقافي تشمل (الفن والأديان). حيث أن العالم اليوم في أشد الإحتياج إلى الإستنارة بما يحوي من آراء ودراسات عن التنوع الثقافي، لا سيما أن غالبية الأزمات والصراعات والحروب الدموية والإرهاب، ومشاكل البيئة والمناخ تتخذ من سوء الفهم لتنوعنا الخلاق واجهة للنزاعات المسلحة.

وذلك يكشف الحاجة الى فهم الثقافة الإنسانية من منظور رؤية شمولية لسكان الكوكب عموما. وهذه النزعة للثقافة الإنسانية لا تهدف تسليط أمة على أمة أو سيادة ثقافة على أخرى، فقد مضت أزمنة التسلط والتسيد منذ أن تعلمت الشعوب الدفاع عن حقوقها في الوجود المتكافئ الذي تؤكده معاني الحرية والعدالة والمساواة، وإنما تهدف إلى إحترام الإختلاف بوصفه سبيلاً للإتفاق والإعتراف بالتباين بوصفه أمراً وجودياً واقعياً وحتمياً ، وتأكد أنه ما من أمل في سلام البشرية إذا ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم، تمارس قهراً سياسياً أو فكرياً أو أخلاقياً على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم.

بدعوى أن الطبيعة الثقافات أو الأمم مميزة ومتفردة عن غيرها بما لا تمتلكه سواها، فمستقبل البشرية مرهون بالإحترام المتبادل وتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي والتسليم الذي لا رجعة فيه، بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء . أن التنوع البشري الذي يقوم على التعايش لا الصراع وعلى الحوار بين ألاطراف وليس بين أطراف مترتبة في علاقات الهيمنة والتسلط والتبعية، هو السبيل الأمثل لمواجهة المشكلات العالمية الكبرى التي لا يقدر على حلها بلد بعينه أو دولة بمفردها.

مثل مشكلات البيئة أو الإرهاب أو التغيرات الجذرية في الخارطة الديموجرافيا، لسكان الكوكب الأرضي على حد التعبير عن تعايش وتعاون لا صراع وصدام ويأتي هذا الحديث تأكيداً لما قصده “خافيير بيريز دي كوييار” الأمين العام للأمم المتحدة، حين قال : “أن الثقافة تشكل فكرنا وتحكم سلوكنا، وإنها طاقة الجماعات والمجتمعات وروحها في مختلف معاني التمكين والمعرفة، وقبول الإختلاف الذي يعني الإعتراف بالتنوع والتعددية” نحن اليوم في أشد الحاجة من أي وقت آخر الى سبيل يقرب وجهات النظر بين الشعوب بتعزيز الحوار حول مفاهيم وممارسات وسياسات تقليدية تضع حدوداً فاصلة مع الآخر ومن منطلق (رؤية الحداثية)، يتحرر الفكر من الأنانية وتنبى الجسور لتعميق التفاعل الذي أساسه التعرف على “الذات”، من خلال الآخر، للتوصل إلى قدر التفاهمات المشتركة وتحقيق التماسك في مواجهة التعصب العنصري بتدعيم فكرة التنوع الثقافي في إثراء الحياة الثقافية وضمان تطورها.

حين تتجنب الفنون (القوالب النمطية) تهيئ بيئة ملائمة للتغيير الثقافي وتفسح مجالاً أوسع للحوار مع الأخر من خلال فنون الإنسان المتنوعة، وسوف يصبح ممكناً تعزيز المشاركة، بتبادل وجهات النظر حول أعمال ثقافية فنية تمثل طرازاً ومذاهب متنوعة وتنتمي لثقافات مختلفة إذ لا يعاني الناس في الواقع من المشكلات الإجتماعية الإقتصادية بقدر ما يعانون من الواقع الثقافي الذي لم تعالج قضاياه؛ وأهمها (التنوع العرقي) واتساع الفوارق بين الجنسين وبين الأجيال ومستويات المعيشة مما يعوق التطور الثقافي القائم على أساس التسامح والعدالة والمساواة، بين مختلف الأطياف وتدعو للعيش معاً بلا تمييز بعيداً عن هيمنة من فئة على أخرى وتشجع على “التحديث” وتفسح مجالاً لأساليب مبتكرة تسمح بالتنمية والإبداع .

لقد أصبحت مسألة الحفاظ على التنوع الثقافي الذي يمثل تراثاً مشتركاً للبشرية، واجباً أخلاقياً يمكن الالتزام به وذلك بحماية التنوع في أشكال التعبير بتدعيم مبدأ التفاعل بالحوار بين الشعوب . و منذ القدم ونحن نتتبع آثار الحضارات المختلفة واكتسبنا من ذلك تتبع المعلومات الكثيرة عن حياة شاغلي هذه الحضارات، فعرفنا واكتسبنا المعلومة عن أساليب حياتهم اليومية وعن جماليات ثقافتهم الفنية وعلى فنونهم المختلفة الراقية التي أثرت في تفكيرنا وحياتنا اليوم، وهذا الحوار لم يخلق الآن بل إنه موجود منذ أقدم العصور، وكانت الحضارات بمختلف أنواعها في الشرق والغرب على حد سواء تتواصل مع بعضها.

فالحضارة العربية الإسلامية تواصلت مع مختلف الحضارات في الهند والصين واليونان والاندلس .. الخ، نقلت ملخصاً عن الحضارات التي احتكت بها إلى العالم الأوربي. وقد لعب الفن الإسلامي دوراً كبيراً في خلق حوار فني حضاري متميز وقد نجح في ذلك لأنه انطلق من هويته وحافظ على طابعة الخاص، أن الخصوصية والمحافظة على الهوية لا يمنعان إطلاقاً من محاورة الآخرين، فالتنوع الثقافي والعرقي عامل ثراء حضاري، يساهم في التنمية المعرفية والفكرية ولذلك نسلط الضوء على دور الفنون فهي خير سفير بين الثقافات . واستطاعت أن تتخطى حواجز اللغة والأنماط السائدة لتعزيز التفاهم والتقارب بين الشعوب ، والفنون تقدم رسالة للعالم حول الإعتدال واحترام الآخر ، وقد كان للأدباء والفنانين الدور البارز في أشاعه ثقافة السلم والتعايش بين الشعوب، ولإثراء الثقافة الإنسانية ولتشجيع الإبداع لخدمة القضايا الإنسانية.

لا يتوفر وصف.

شاهد أيضاً

ازمة لبنان تعبر خطوط الإنذار

العاصمة بيروت تتعرض للقصف الجوي من العدوان الإسرائيلي ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى َوتهجير …

error: Content is protected !!