طاهر علوان
تنعقد راية الحروب على محاربين أشداء قادرين بقلوب لا تعرف الرحمة على الإجهاز على العدو أيا كان. شاهدنا في العديد من الأفلام التي واكبت الحرب العالمية الثانية، صورة النازي وحلفائه من جهة وخصومه من جهة أخرى. صورة النازي على الشاشة تبدو أقرب إلى الكليشيه الذي تكرر في السينما الأميركية وحتى في السينما الألمانية، النازي المتوحش الذي يتقمص صورة وطريقة تفكير وحتى طريقة كلام وحركات هتلر.
لعل ثيمة النازي وحقيقة الاحتلال الذي عصف بأوروبا طولا وعرضا كانت وما تزال ثيمة مؤثرة وموضوعا سينمائيا مفضلا، حتى أننا عرضنا الأسبوع الماضي فيلما على تلك الخلفية وتلك الثيمة، وها نحن أمام فيلم آخر ما يزال الاهتمام به والكتابة عنه لا ينقطعان لاسيما وأنه يعرض الآن في الصالات الأميركية وهو فيلم “نداء للتجسس”.
والحاصل أن هذا الفيلم ميزته الثانية والمهمة عدا عن ثيمته والقضية التي يعالجها هو كونه يخرج عن قاعدة المحاربين الأشداء إلى النساء ودورهن في تلك الحرب، وليس ذلك فحسب، بل إن هذا الفيلم في حد ذاته هو فيلم أنثوي بامتياز، الإخراج ليديا دين بليتشر وكتابة السيناريو ساره ميغان توماس، والشخصيات الرئيسية والإنتاج كلّه لشخصيات نسائية.
الصدق والإقناع
ها نحن مع صوت المذيع وهو يعلن عن سقوط بولندا، النمسا، الدنمارك، النرويج، تشيكوسلوفاكيا، بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ، يوغسلافيا، اليونان، شمال فرنسا كلها تتساقط تباعا تحت الاحتلال النازي الزاحف باتجاه أوروبا، وها هو على وشك اجتياز بحر الشمال.
بريطانيا تحبس أنفاسها وتشرشل في غرفة الحرب وليس هنالك من معلومات ثمينة توثق تحركات العدو في فرنسا وهو يتجهز لغزو بريطانيا، فضلا عن صعوبات حركة الجواسيس ووقوع العديد منهم في قبضة النازيين، لهذا كله يوصي تشرتشل بتشكيل تنظيم سري من النساء الجاسوسات من منطلق أن المرأة قد لا تلفت النظر وهي تقوم بعمليات التجسس.
من هذه النقطة سوف ينطلق هذا البناء الفيلمي ومن مشهد دخول جنود الغستابو لتعذيب فتاة وانتزاع اعترافاتها لنكتشف في ما بعد أنه مشهد تمثيلي وهو بمثابة تدريب لإحدى الجاسوسات الإنجليزيات على مهمتهن الجديدة، وهذه الفتاة هي فيرجينيا (الممثلة ساره ميغان توماس) وهي نفسها المنتجة وكاتبة السيناريو وإحدى الشخصيات الرئيسية الثلاث في الفيلم.
ما بين غرف الاستخبارات البريطانية والرحلة إلى فرنسا سوف تتوزع مهمة فيرا (الممثلة ستانا كاتيك) وهي المنسقة الرئيسية للمهمة والساعد الأيمن لرئيس جهاز الاستخبارات السرية البريطاني.
الخطوط السردية في الفيلم تتصاعد تدريجيا حيث تم نسجها بعناية شديدة وبكثافة ملفتة للنظر من الصور والأحداث
وهي في موازاة ذلك تنتمي إلى عائلة مهاجرة من أصول رومانية يهودية وهو ما يشعرها بعدم ثقة الآخرين بها، لاسيما زملائها في العمل بسبب دينها وأصولها العرقية.
وبذلك تكمّل أزمة فيرا أزمة زميلتها فيرجينيا فهي معاقة وتسير على قدم خشبية على الرغم من أن من يراها يحسبها مصابة بعرَج خفيف لا أكثر وهي تعمل في السفارة الأميركية في لندن ويتم رفض ترقيتها لوظيفة دبلوماسية بسبب تلك اللإعاقة.
ولكي تتكامل الصورة سوف تظهر نور عناية خان (الممثلة رادهيكا ابتي) وهي فتاة من أب هندي مسلم وأم روسية وسوف تعمل في مجال التجسس باستخدام أجهزة التنصت وإرسال الرسائل المشفرة.
بذلك تم تأسيس البناء الدرامي للفيلم على هذا الثلاثي لتبدأ المهمة في فرنسا وليدخل فرنسيون مقاومون منهم الطبيب والقس وغيرهم.
لا شك أننا في حاجة إلى المزيد من الإقناع والحبكات الثانوية لكي نستقبل مهمة الجاسوسات المفترضات وما يمكن أن يقمن به من أعمال.
وهنا لا بد من القول إن الخطوط السردية الرئيسية في تلك الدراما التي تتصاعد تدريجيا قد تم نسجها بعناية شديدة ويحسب للمخرجة تلك الكثافة الملفتة للنظر من الصور والأحداث، التي جعلت مهمة المونتاج مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق للخروج من كل تلك الكثافة الصورية بحصيلة مهمة.
والحاصل أن مهمة فيرجينيا تتجه باتجاه المجتمع الفرنسي وهي تخوض مجازفات عديدة، وفي أجواء محتقنة حيث أن الشرطة الفرنسية مكلفة بمراقبة أي نشاط مضاد للنازيين، وهو ما تخوض فيه فيرجينيا بشجاعة ملفتة للنظر، وتناور وتقنع الآخرين وتمضي في المهمة في وقت تكون فيه نور وهي تحمل ذلك الجهاز الثقيل للإرسال بتوجيه رسائلها الأولى إلى مقر المخابرات في لندن وتكون المهمة قد سارت على ما يرام.
وفي إطار المعالجة الواقعية للأحداث فلا شك أن الفيلم هو أقرب إلى اليوميات وإلى سيرة شخصيات محددة لاسيما وأن هنالك إشارة مباشرة مع بداية أحداث الفيلم بأنه مبني على أحداث ووقائع حقيقية، وبالتالي فإن الشخصيات الرئيسية ليست بعيدة عن الواقع.
ومن هنا كان مسار الأحداث ينمو بطريقة مقنعة للغاية وبدا أن هنالك كثيرا من العمل على نقل صورة واقعية بلا مبالغات، فضلا عن الحرص على التصوير في أماكن حقيقية في إطار التأكيد على الإحساس بالمصداقية التي انطوت عليه الجغرافيا المكانية في هذا الفيلم.
ولتدعيم ذلك فلا بد من النظر جيدا في مجمل المناظر التي تميزت بصدقية انتمائها إلى أربعينات القرن الماضي، وهو ما يحسب للفيلم في كونه أقنعنا بأن ما نراه ليس واقعيا فقط، بل إنه يروي سيرة شخصيات من المهم أن نتعرف عليها ولربما نتعاطف معها.
شخصيات نسائية
فيرجينيا كما ظهرت شخصية تتميز بالشجاعة والعناد، الأمر الذي انتهى بها إلى ركوب الصعاب وتسلق جبال الألب هربا ووصولا إلى بر الأمان والعودة إلى لندن بعد انكشافها واكتشاف شبكتها، أما على الجهة الأخرى فإن التعاطف يذهب باتجاه نور، الفتاة التي عانت الكثير في المهمة وهي تحمل ذلك الجهاز الثقيل وتنتقل به من مكان إلى آخر خوفا من تعرّف النازيين على مكان إرسال الرسائل وهو ما يحصل فعلا ويتم القبض على نور وإعدامها لاحقا في مشهد مؤثر.
وخلال هذه الأحداث تظهر صورة اليهودي لتكمل تلك الدراما المأسوية لاسيما مع الحملات الهتلرية التي لا ترحم، إذ تظهر شوارع المدن الفرنسية وقد انتشرت عليها ملصقات مليئة بالسخرية من اليهود، الذين عليهم باستمرار التجمع والتعريف بأنفسهم أمام السلطات، لأنهم مشكوك في ولائهم ولا ثقة فيهم.
وفي هذا الإطار سوف يكون لقاء نور بصديقتها اليهودية التي تخبئها وتتيح لها العمل من بيتها لبعض الوقت، قبيل أن يتم القبض عليها، وهنا أيضا ستتجسم علاقة اجتماعية ملفتة للنظر، وتشعر نور وكأنها عثرت على فرد من أسرتها وكذلك الفتاة اليهودية التي سوف تتفانى من أجل حماية نور ومساعدتها في القيام بمهمتها.
يشكل عنصر الاكتشاف ركنا مهما، اكتشاف المدينة التي تمتلئ بالغستابو وتابعيهم، المدينة محتلة، الحياة مضطربة والموت قاب قوسين أو أدنى، وها هي فرجينيا تكشف عن رباطة جأش وتمر أمام رجال الشرطة بثقة، ربما يكون هنالك إسراف في إسباغ مزيد من الشجاعة على فرجينيا تحديدا وبلورة شخصية البطلة التي لم توقفها إعاقتها الجسدية عن المضي في المهمة إلى النهاية.
وإذا كنا إزاء ميزة الشجاعة وطريقة تقديم الشخصيات على الشاشة لجهة بنائها العاطفي والنفسي فإن فيرا في المقابل تقدم نموذجا استثنائيا آخر، فهي المفرطة في التدخين ولا تفارق السيجارة فمها من شدة التوتر لا تنقطع ليلا ولا نهارا عن تتبع مآل الجواسيس تباعا، لكنها وهي في قمة الزهو تشعر بالعجز والإحباط عندما تعود إلى المنزل فتلاقي والدتها، لتتذكرا أنهما غريبتان في هذا البلد وأنه من الممكن أن يتم إبعادهما في أي وقت كان.
في مشهد ليلي مصنوع بعناية على الجهة البريطانية هنالك فيرا تترقب القمر وتتتخيل أوضاع النسوة اللائي يعملن تحت الخطر ضد النازيين، ومن ثم في تلك الليلة المقمرة يتم إنزال آخرين لتذكّرها أمها بأن الجنود يظهرون في الظلماء كقطعة من القمر لتبدد توترها وهلعها مما يمكن أن يقع لمن كلفتهم بالمهمة فينهار كل شيء.
في إطار بث مزيد من الحبكات الثانوية لسردية تطغى عليها السمة الواقعية سوف نشاهد نور وقد ركبت القطار إلى باريس ليتوقف في إحدى المحطات بأمر الألمان للاشتباه بشخص ما يبحثون عنه من المقاومة الفرنسية للاحتلال، وهنا يتم تفتيش كل شيء وإنزال جميع الحقائب وبما فيها حقيبة نور التي تحمل جهاز الإرسال، وفي مشهد يحبس الأنفاس يتخلى الجنود الألمان عن التفتيش بعدما يكونون قد عثروا على الشخص الذي يبحثون عنه.
مثل هذه الحبكات الثانوية كانت ضرورية لغرض المضي بالأحداث إلى نهاياتها وتحريك الأجواء باتجاه التصعيد الذي سوف نواجهه مع وصول الغزو إلى كل فرنسا تقريبا وخاصة العاصمة باريس، ومن ذلك أيضا اشتباه رجل الشرطة في الليل بالمقاومين وإجبارهم على الكشف عن هوياتهم ليقع اشتباك يتم فيه التخلص من ذلك الشرطي مما يثير حملة بحث شرسة عنهم.
وفضلا عن إضافة مزيد من الحبكات التي تعزز الدراما، كان توقيت ظهور كلاوس باربي، الضابط النازي الشرس الذي أذاق الفرنسيين الأمرين، حيث يظهر في الربع الأخير من الفيلم، ليزيد الأحداث تصعيدا، وهو في الواقع الذي يتمكن بشراسته ووحشيته من الكشف عن شبكات التجسس والإيقاع بها لاحقا، مما يوقع فيرجينيا في وضع حرج للغاية بسبب نشر صورها في كل مكان ومن يعثر عليها ينال مكافأة من الجيش النازي.
محنة التخفّي تضفي بعدا آخر للدراما الفيلمية، لاسيما وأن فيرجينيا تصبح هدفا أساسيا بعد نشر صورها بكثافة لإلقاء القبض عليها مما يدفعها إلى تغيير شكلها ولون شعرها ولتبدأ رحلة عناء جديدة بعد انكشاف أمر الخلية التي أسستها بالاعترافات القائمة على التعذيب الذي يتعرض له الثوار.
وإذا كنا قد توقفنا عن البناء الدرامي والشخصيات فلا شك أن بناء الصورة قد أضاف بعدا جماليا للفيلم، لنشاهد مثلا لحظة شنق أحد أفراد المقاومة مع انتشار ثكنات الجيش النازي، وحيث يتم التصوير من أعلى ومن وجهة نظر فرجينيا، ثم القطع مونتاجيا باتجاه الحشود من حول المعارض الذي تم شنقه، وذلك مثال على نوع المشاهد المصنوعة بعناية وبحس جمالي.
وفي المقابل فإن مشاهد الاستجواب بعد انهيار فرق التجسس السرية منح مزيدا من الواقعية للأحداث إذ لم يتوقف الفيلم عن شخصيات السوبرهيرو بل وجدناهم أناسا عاديين من الممكن أن يقترفوا أخطاء فيدفعوا ثمنها وهي من نوع الأخطاء التي تكشف عن شخصية العميل السري ولكن ها هو الطبيب الفرنسي الأنيق الذي لعب دورا في المقاومة وهو وجها لوجه مع ضابط الغستابو البشع باربي الذي سوف ينتقم أشد الانتقام من ذلك الطبيب بسبب الوشايات التي وصلته عنه.
وإذا عدنا إلى مشاهد الشجاعة فلسوف تكون هنالك فيرجينيا في الصدارة وهي تبدأ رحلتها الصعبة عبر الجبال بعد انكشافها وهي صورة بطولية أخرى لكنها لا تخلو من مبالغة فكيف يمكن لفتاة معاقة أن تتسلق تلك الجبال الوعرة والثلوج ثم تصل إلى بر الأمان وإذا هي عائدة إلى لندن ليتم الاحتفاء بها ولتطلب الامر العودة من جديد.