د سعد السعيدي .
ينشغل العراقيون اليوم اكثر من اي وقت مضى بمناقشة امور حياتهم الملحة وشغلهم الشاغل لا سيما تلك الشواغل المتعلقة بالجوانب المعيشية التي باتت تضغط سلبا بشكل غير مسبوق على قدرات المجتمع في مجال مواصلة الحياة بمستويات مقبولة تحفظ كرامتهم , ولعل هذا الضغط هو الذي يدفعنا ويدفع غالبية الشعب العراقي لطرح سؤال كبير يبدوا كالسهل الممتنع الا وهو هل نحن بلد غني ؟ واذا كنا بلد غني لماذا نرى كل هذا العسر والفقر ؟ ولماذا نحن في ضائقة مالية كبيرة ؟ ولماذا نعاني من فشل تام على مستوى البنى التحتية وعلى مستوى التنمية ؟ ولماذا تفشل الدولة في توفير فرص عمل لقوى العمل المتزايدة ؟ وماهي اسباب كل هذا الفشل وغيره ؟
وللإجابة عن هذه الاسئلة التي ما انفكت تشغل بال الشعب العراقي وبدون مقدمات فأن المفاجئة هي اننا لسنا بلد غني بالمرة فهل تبدوا هذه الاجابة منطقية ؟ نعم انها منطقية حينما نفهم ما هو الغنى وفقا للمنطق الاقتصادي الحديث , ان الغنى الاقتصادي الحديث بات يتعلق بالقدرة على الابتكار وتحويل هذا الابتكار الى سلع وخدمات مختلفة تلبي الطلب المحلي وتسمح بتصدير فائض الانتاج الى الاسواق الدولية مقابل الحصول على تدفقات من النقد الاجنبي لا سيما الدولار .
بمعنى اذا اردنا ان نعرف مستوى الغنى الاقتصادي فيجب ان ندرك اولا انه يرتبط بشكل اولي بالقدرة على الانتاج سواء كان انتاج زراعي او صناعي او خدمي او اي نوع اخر من انواع الانتاج الذي يضيف دخل جديد للاقتصاد , وثانيا هو الريع الذي يمكن ان يضيف دخل مهم الى الاقتصاد كمصادر الطاقة المختلفة وفي مقدمتها النفط والغاز على شرط ان لا يكون مصدر الدخل الوحيد .
ووفقا لهذا المنطق فأن الكثير من الدول التي لا تمتلك اي نوع من انواع الطاقة التقليدية يمكن ان تكون غنية وغنية جدا كما هو الحال مع سنغافورة اليابان و اغلب دول الاتحاد الاوربي وغيرها , ويمكن ان تكون دول تمتلك نفط وغاز ومصادر ريع اخرى لكنها دول اقرب الى الفقر منها الى الغنى كالعراق مثلا . فأمتلاك النفط والغاز دون توظيفه بطريقة ناجحة وفقا للمنطق الاقتصادي السليم لا يعني بالضرورة انه سيفضي الى غنى وتقدم اقتصادي.
اذا اين تكمن المشكلة ولماذا اصبحنا بلد يعيش في تناقض وفرة موارد الطاقة ( الريع ) من جهة وتراجع الموارد النقدية وانكماش الناتج المحلي الاجمالي من جهة اخرى وبالتالي اصبحنا امام مشكلة اقتصادية كبيرة جدا وصلت الى حد عجز الحكومة عن الايفاء بالتزاماتها بدفع رواتب الموظفين .
يتعلق هذا الفشل بالدرجة الاساس بالفلسفة الاقتصادية للدولة العراقية بعد عام 2003 , فقد قامت هذه الفلسفة على اساس التحول الاقتصادي من النظام الاشتراكي _ المختلط الى النظام الرأسمالي التام ومن اجل هذا تم تحرير اغلب القطاعات الاقتصادية وفسح كامل المجال امام المشاريع الخاصة للنمو وادارة الاقتصاد , وشرعت الدولة بزيادة الاجور العامة بشكل لا يتناسب مع حقيقة قدرة الاقتصاد مستفيدة من ارتفاع اسعار النفط منذ عام 2006 , كما ان هذه الفلسفة الاقتصادية قامت على اساس فرضية اثبتت الوقائع انها فاشلة وعملت بشكل عكسي الى حد كبير الا وهي…. ان رفع الاجور سيؤدي الى رفع مستوى الانفاق وزيادة مستوى الطلب واذا زاد الطلب سيفضي الى دفع المنتجين المحليين الى زيادة الانتاج وتنويعة للتقليل لاحقا من الاعتماد على واردات النفط وجذب الاستثمار الاجنبي وبالتالي ينتهي الى توسع اقتصادي ونمو مستمر ….
الا ان قوى الفساد المرتبطة بالعملية السياسية وبالقوى الخارجية استطاعت ان تجعل من هذه الفرضية عامل هدم واستنزاف للاقتصاد العراقي , فبعد ان تحول القطاع الخاص العراقي المرتبط بالقوى السياسية النافذة الى وكالات استيراد عملاقة عمل على تعطيل اي فرصة لقيام هيكل انتاج محلي متنوع والغاء اي فرصة لجذب الاستثمار الاجنبي عبر التعمد بأثارة الفوضى ورفع مستوى المخاطر الامنية والسياسية والاقتصادية وبالتالي اجهضت فكرة تطوير الجهاز الانتاجي المحلي والابقاء قدر الامكان على جهاز انتاجي عند حدوده الدنيا والتي تعجز عن تلبية الطلب المحلي المتزايد والتواق لتنويع الاستهلاك .
ان فشل الجهاز الانتاجي المحلي بالتزامن مع استمرار الطلب افضى الى نقل شبه تام للعملة الاحتياطية الموجودة في العراق الى الخارج عبر التزامات البنك المركزي لتمويل التجارة الخارجية والتي تقدر ب 50 مليار دولار سنويا , وقد كان لايران وتركيا حصة الاسد من هذا التدفق النقدي العراقي بعد ان اقامت وكالات الاستيراد العراقية علاقات تخادم وعرى تجارية لا تنفصم مع الدولتين الى الدرجة التي باتت مستويات النمو في تركيا وايران وغيرهما تعتمد على نسب تجارتها مع العراق واصبحت السياسة النقدية العراقية في خدمة اهداف التنمية الاقليمية بدل ان تكون ماكنة للنمو المحلي .
وهكذا اصبحنا امام مشهد محزن قوامه العجز عن الانتاج المحلي المتعمد يفضي الى الاعتماد على الانتاج الاجنبي الاقليمي عبر تجارة خارجية مختلة وفاسدة انتهت الى استنزاف اغلب موجوداتنا النقدية دون ان يكون لها اثر في الاقتصاد المحلي يصاحبه عجز حكومي غير مسبوق عن تعديل هذه المعادلة الظالمة وقد ساهم انخفاض اسعار النفط في تعميق هذه المشكلة وتعقيدها الى الدرجة التي لم تعد واردات النفط قادرة على تلبية نصف الاجور يرافق كل هذا فساد وهدر وتسرب مالي وفشل في النظام الضريبي والكمركي وارتباك الجهاز المالي والنقدي والمصرفي بشكل غير مسبوق .
المشكلة الاكبر في هذه التراجيديا الاقتصادية هي ان الشعب العراقي لا زال غير مدرك لهذا الواقع وما زال يعتقد انه شعب غني يعيش في دولة من اغنى دول العالم لمجرد انه يمتلك النفط والغاز متغافل ان هذه الموارد لم تعد تعني شيء مهم في الاقتصاد الحديث القائم على الابتكار والذكاء الصناعي ويكفي ان نشير الى ان ما تحصل عليه شركة ابل الامريكية لوحدها من دخل يعادل خمس اضعاف ما يحصل عليه العراق سنويا … فهل نحن اغنياء حقا وبلدنا الذي التهمته قوى الفساد غني ام اننا نعيش الوهم الاقتصادي ؟؟
شاهد أيضاً
ازمة لبنان تعبر خطوط الإنذار
العاصمة بيروت تتعرض للقصف الجوي من العدوان الإسرائيلي ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى َوتهجير …