طاهر علوان
مرّ قرابة العقدين على الحرب الأميركية – البريطانية التي شنّت على العراق وأسفرت عن احتلاله وتدميره بشكل لم يعد خافيا على أحد. وقد سبق الحرب العديد من السيناريوهات الملفّقة التي سعت من خلالها واشنطن ولندن إلى مغالطة العالم وإجبار العديد من الدول على الموافقة على تلك الحرب. من هذه الأحداث الواقعية ينطلق فيلم “أسرار رسمية” الذي يصور ببراعة عالية سيرة امرأة بريطانية فضحت أكاذيب الدول ووقفت بمفردها ضد الحرب وناضلت للحفاظ على الحب.
في المشهد الأول من فيلم “أسرار رسمية” تقف امرأة أمام محكمة إنجليزية ومحلّفين، ويعلن القاضي سيلا من الاتهامات التي تلاحق تلك المرأة الشابة، ومنها أنها أفشت أسرار الدولة بتعمد، مما يعد إضرارا عن قصد بالدولة ومؤسساتها، ثم يسألها سؤالا محددا، هل تجدين نفسك مذنبة؟
وقبل أن تجيب سوف ينتهي المشهد لنعود إلى الحياة اليومية للسيدة كاثرين غان (الممثلة كيرا نايتلي) وهي بصحبة زوجها ياسر (الممثل آدم بكري) بينما العالم يكاد يقطع أنفاسه استعدادا لغزو العراق.
بالنسبة لكاثرين فإن العملية برمتها ملفقة تماما وهي ترصد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، وكيف يلقي بأكاذيب يمينا وشمالا للترويج لفكرة الحرب.
جاسوسة ضد الحرب
صانع هذا الفيلم هو غافين هود، وهو ممثل وكاتب سيناريو ومخرج مميز من جنوب أفريقيا، سبق وأن أخرج أكثر من 12 عملا ما بين فيلم روائي طويل وقصير ومسلسل تلفزيوني، وها هو يخوض في جانب من السيرة الذاتية لامرأة هي كاثرين غان التي تعمل مترجمة للإنصات في إحدى مؤسسات التقاط الإشارة (التنصّت) التابعة للحكومة البريطانية وهي تترجم عن اللغة الصينية.
ويبنى العمل على رواية حملت عنوان الجاسوسة التي حاولت إيقاف الحرب للمؤلفين مارسيا وتوماس ميتسشيل.
التحوّل في حياة كاثرين يتمثل في الصراع الذي تعيشه مع نفسها في إصرارها على رفض الحرب وفضح الأكاذيب
تخضع المؤسسة الاستخبارية التي تعمل فيها كاثرين إلى رقابة مشددة تجعل العاملين في حالة من الريبة ألا يصدر من أي منهم تعليق أو تصرف ما يثير الريبة.
وهي في أثناء عملها المعتاد تظهر أمامها رسالة إلكترونية خلاصتها أن الولايات المتحدة وبريطانيا تنويان تنفيذ لوبي يحيط بعدد من الدول الصغيرة والضعيفة، لغرض إجبارها على التصويت لصالح محاصرة العراق وغزوه بصرف النظر عن العثور على أسلحة الدمار الشامل المزعومة من عدمه.
في هذه الأثناء يشكل الزعيمان توني بلير وبوش الابن ومساعديهما فريقا شريرا من عتاة المتشددين المتعطشين لشن الحرب، ولهذا كانوا يسابقون الزمن في ترويج القصص الملفقة والأكاذيب ولعل من أشهرها تلك التي أعلنها كولن باول وزير خارجية أميركا في تلك الحقبة في شهادته الشهيرة أمام مجلس الأمن على أساس أن العراق غير متعاون مع المفتشين وأنه يخفي أسلحة دمار شامل فضيعة يمكن أن تتحرك إلى أي مكان، وأن النظام العراقي يشكل خطرا على السلم الأهلي.
تتكدّس كل هذه اليوميات في زمن شديد العبوس أمام ناظري كاثرين ومهما حاولت تجاهلها فإن ضميرها الحي ودفاعها عن حق البريطانيين في التعرف على الحقيقة، يدفعها قدما إلى رفض منطق الحرب، وهنا لا بد من ضربة توجهها لمصداقية الحكومة البريطانية.
التحول والاعتراف
ينجح المخرج في تتبع يوميات الاستعدادات للحرب وتهيئة الرأي العام من وجهة نظر كاثرين وذلك ابتداء من مطلع يناير 2003 وحتى شن الحرب في مارس من نفس العام، وخلال ذلك تتابع يوميات كاثرين حتى تقرر استلال البرقية بالغة السرية التي تفضح تآمر الحكومتين الأميركية والبريطانية للضغط على الدول الصغيرة لإجبارها على دعم شن الحرب.
هنا تقف كاثرين أمام مفترق طرق وهي تخرق عهدا والتزاما قانونيا قد يجلب لها بلاء عظيما، لاسيما وأنها تعمل في مؤسسة مخابراتية حكومية، لكنها في الأخير تتخذ قرارها وتستنسخ الرسالة الإلكترونية وترسلها بالبريد إلى صديقتها الناشطة ضد الحرب، والتي بدورها تسلمها إلى آخرين وصولا إلى صحيفة أوبزيرفر البريطانية وإلى يدي الصحافي مارتن برايت (الممثل مات سميث) ويبدأ تحقيقا استقصائيا يكمله زميله المتطرف ضد الحرب والمقيم في الولايات المتحدة.
كان ظهور الخبر على صدر الأوبزيرفر البريطانية عشية التحشيد لشن الحرب على العراق له وقع الزلزال، الكشف عن الخدع القذرة التي تتبعها الولايات المتحدة لضمان التصويت لصالح الحرب في مجلس الأمن.
على أن التحوّل في حياة كاثرين يتمثل في الصراع الذي تعيشه مع نفسها في إصرارها على رفض الحرب وعدم تصديق الأكاذيب التي تبثها الحكومتان البريطانية والأميركية عشية الحرب، وصولا إلى شعورها بالذنب وهي تشاهد زملاءها يتم استدعاؤهم واحدا بعد الآخر للتحقيق معهم بحثا عمّن سرب الخبر إلى الصحافة، وفي آخر المطاف تقرر كاثرين الاعتراف وبالفعل تقف أمام المحقق ووسط دهشة بل قل صدمة زملائها في العمل وتعترف أنها من سربت الوثيقة.
رسائل أخلاقية
يسير الفيلم وسط عملية التحري والصخب المواكب للمعارضة الشعبية العارمة للحرب مع ظهور مشاهد بوش وبلير وهما يقرعان الطبول ويهيئان الرأي العام المحتشد في مظاهرات.
على الجانب الآخر تعيش كاثرين مع زوجها ياسر أزمة حقيقية، فالزوج التركي – الكردي الأصل ما زال من دون إقامة، ولهذا سارعت كاثرين للزواج به لإنقاذه من الترحيل، لكن ها هي وقد أصبحت امرأة خائنة لهذا كان لا بد من الانتقام منها.
وتبدأ رحلة كاترين الجديدة في محاولة إنقاذ زوجها من الترحيل، وتتمكن من ذلك في اللحظة الأخيرة قبيل ترحيله عائدا إلى تركيا.
صنع المخرج نسيجا دراميا متصاعدا لم يصبه الترهل أو الهبوط في الإيقاع كما أنه عني برسم كادرات مميزة عند تصوير الشخصيات، لنلاحظ مشاهد ذهاب كاثرين لجلب زوجها من الترحيل حيث التصوير باستخدام اللقطات البعيدة والحوار المرتبط بحيرة وهلع كاثرين خوفا من ترحيل زوجها ثم الإفراج عنه.
مشاهد مثيرة في دراما إنسانية عميقة تظهر فيها كاثرين وكأنها رمز لضمير العالم، تدافع عن زوج مسالم دفعته الظروف للهجرة بسبب اضطهاد الأكراد، تدافع عن موقفها ضد الحرب وضد ما تم ترويجه من أكاذيب لتسويقها.
على أن تلك الدراما المتصاعدة كان لا بد لها من وقفات، ومنها مثلا أجواء التحرير في الصحيفة البريطانية وحيث ينقسم المحررون ما بين مؤيد ومعارض للحرب، حالهم كحال المجتمع البريطاني المنقسم آنذاك.
تكاملت في هذا الفيلم أدوار الشخصيات ومن ذلك الطاقة الحوارية المميزة التي تجمع ما بين كاثرين وبين (الممثل رالف فينيس) ومساعديه من المحامين في إحدى الجمعيات الحقوقية التي تحاول الدفاع عن كاثرين. يدار الحوار بين المجموعة في تناغم ملفت للنظر ومليء بالحيوية وتبرز هنا القدرات التعبيرية المميزة للممثل فينيس حيث تحوّل فجأة إلى ندّ قوي للحكومة ولأجهزتها السرية وهو ما سوف يثمر لاحقا.
وفي إطار ذلك النسيج الذي يخلط الوثائقي بالدرامي تظهر حيرة كاثرين وهلعها مما سوف يلحق بها من أضرار قد تترتب على محاكمتها مع إصرارها أنها لم تنشر الوثيقة إلا لحماية الشعب البريطاني من الحرب وليس الإضرار به وهو ما لم يقنع المحققين بينما تنتظر كاثرين المحاكمة الفاصلة.
لا شك أن الفيلم محمّل برسائل أخلاقية بالغة الأهمية في سياق السرد الفيلمي كما أنه استند إلى قصة سينمائية شكلت الوثيقة السينمائية فيها ركيزة أساسية وعلى هذا كانت تلك الرسائل الأخلاقية بالغة العمق والتأثير على الرغم من أن موضوع أخلاقيات تلك الحرب قد أشبع نقاشا وظهر في العديد من الأفلام إلا أن محنة إليزابيث كانت بمثابة تمثّل آخر لتلك الدراما الفاجعة.
ولربما كان كل ذلك سببا لدى المخرج في بناء معالجة سينمائية أكثر واقعية على صعيد الصورة والشكل والمعالجة الفيلمية وأداء الشخصيات مع المساحة الواسعة التي احتلتها كاترين في مقابل ياسر الذي لم يكن ندّا قويا لها، وبدا وكأنه مجرد زوج منحته كاثرين كثيرا من العطف والتعاطف لا أكثر.
من جهة أخرى وفي سياق التحوّلات الدرامية بدت الجلسات مع المحققين أكثر إقناعا لجهة اختيار الممثلين وفي كل تلك الجلسات كانت كاثرين تواجه مصيرها وقدرها بمفردها دون أن يقف معها أحد، حتى زوجها لم تسمح له بمرافقتها خوفا من القبض عليه مجددا وترحيله، وكذلك أصدقاؤها وصديقاتها، كلهم ابتعدوا عن تلك المواجهة الخطيرة.
على أن ما لم يكن في الحسبان أن تجري تلك المرافعة، فيسحب ممثل الادعاء مرافعته وتتنازل الحكومة عن اتهاماتها لكاثرين بالخيانة وإفشاء أسرار الدولة وسط دهشة الجميع وحيث خرجت كاثرين إلى العالم بريئة لتؤكد للعالم وأمام الصحافة أنها لو أتيحت لها الفرصة لفعلت ما فعلته مجددا.
ولعل القراءة الجمالية لهذا الفيلم تستند أكثر ما يكون إلى ما فرضته الطبيعة الوثائقية للعمل واستناده إلى وقائع حقيقية هي جزء مهم من الحياة لتعمق من ذلك جمالية الصورة التي أدارها ببراعة مدير التصوير الألماني فلوريان هوفميستر، والذي حاول الموازنة بين الواقعي والدرامي والوثائقي وهو ما شكل سمة مميزة للفيلم وعلامة أخرى مهمة في مسيرة المخرج المثابر غافين هود.
وإذا توقفنا عن الكاستينغ فمن الملاحظ أن طبيعة الفيلم استوجبت الكثير من الجهد في هذا المجال لاسيما مع الحاجة إلى الكثير من الممثلين بأدوار ثانوية قصيرة جدا، ومنهم مثلا في مقر عمل كاثرين من الإدارة إلى زملاء العمل، ومن ثم في أجواء صحيفة أبزيرفر، وصولا إلى جلسات المحاكمة، وكل ذلك بدا متماسكا إلى حد كبير، ولم يتسبب في تشعب مسارات الفيلم بل نجح المخرج في صنع دراما متميزة وشكل إخراجي وجمالي مميز.