الحكم عن طريق النقاش العام

محمد عبد الجبار الشبوط

قبل حوالي ١٥٠ سنة (١٨٧٢) نشر المؤلف والصحفي الانگليزي والتر باجهوت (١٨٢٦-١٨٧٧) كتابه “الفيزياء والسياسة” الذي عرّف فيه الديمقراطية بانها “الحكم عن طريق النقاش”.
وقبله كان الزعيم الاثيني بيركلز (٤٩٥-٤٢٩ ق م) قد قال ان النقاش العام “مقدمة لا غنى عنها لاي عمل حكيم”.
وكان ارسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق م) اول من دافع عن اهمية انخراط المواطنين في النقاش العام حول القوانين.
ودعا جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) الى الحكم عن طريق النقاش.
ومنذ بداية القرن العشرين الماضي اخذ المفكرون السياسيون امثال جون ديوي والف روس وليندسي وهابرماس وجون راولز يربطون بين الديمقراطية والنقاش العام.
واليوم، طور الفكر السياسي نوعا جديدا من الديمقراطية اسمه الديمقراطية التداولية، deliberative democracyالذي مفاده ان النقاش العام ضروري للحكم الرشيد.
اسوق هذه المقدمة لمناسبة استقطاع مبالغ معينة من رواتب المتقاعدين ثم التراجع عن ذلك بسرعة واعادة المبالغ المستقطعة بعد اقل من ٢٤ ساعة.
لا اريد ان اناقش التخبط والارتباك في تصريحات وتصرفات المسؤولين الحكوميين وعلى راسهم رئيس الوزراء ووزير المالية حول هذه المسألة، فقد جاءت متناقضة، الامر الذي راح ضحيته الاخ رئيس هيئة التقاعد الوطنية احمد عبد الجليل الساعدي.

كما لا اريد ان اناقش ما قاله رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي حول ردود الفعل على الاستقطاع، فقد كان متوترا بعض الشيء، وتضمن حديثه بعض المغالطات والتوريات التي كان عليه تجنبها.
ومع ذلك، فان هذه الامور اصبحت من الماضي الان، لكني اريد ان اطرح شيئا للمستقبل امام الحكومة الحالية، وكنت قد طرحته ايضا على رئيس الحكومة الاسبق نوري المالكي. ويستهدف هذا الامر ترشيد الاداء الحكومي، وهو مما قراته في الكتب المتخصصة وشاهدته في العديد من الدول الحضارية الحديثة بدرجاتها المختلفة.
وهذا الامر هو: يجب طرح القرارات المتعلقة بالمواطنين مباشرة للنقاش العام من قبل الجمهور، والدراسة العلمية العلنية من قبل علماء متخصصين، قبل الاقدام على اية خطوة تنفيذية او تشريعية بشانها، ثم التوجه الى البرلمان لمناقشة القرار من الناحية الدستورية، والقانونية، والديمقراطية، ثم الانتقال الى مرحلة اتخاذ القرار من السلطة التنفيذية.
الدستورية تعني عدم مخالفة الدستور وخرقه، والقانونية تعني عدم مخالفة القوانين النافذة، والديمقراطية تعني اشراك الجمهور وممثليه بالقرار عملا بمبدأ المشاركة السياسية، والشفافية.
وهذا كله من اهم معالم الحكم الرشيد.
والحكمة من “الحكم عن طريق النقاش” هي التوصل الى قناعة شعبية عامة بالقرار المزمع وتجنب رد الفعل المعارض له، وخاصة في القضايا المتعلقة بمعيشة المواطنين كالرواتب والاجور والضرائب والاسعار والاستقطاعات وغير ذلك. ففي مثل هذه الامور لا يصح ان يتخذ القرار رجل او رجلان او ثلاثة، كما لايصح ان يُتخذ القرار قبل خضوعه لدراسة علمية دقيقة يشارك فيها علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الاعلامي.
كما يتعين اجراء استطلاعات عامة حول القرار في نهاية مرحلة النقاش العام لمعرفة اتجاهات الرأي العام بخصوص القرار المزمع. واخيرا اتخاذ القرار بناء على هذه المقدمات الثلاث (النقاش العام، الدراسة العلمية التخصصية، الاستطلاع العام). وبهذا يكتسب الحكم احدى صفات الحكم الرشيد.
وهذا ما لم يحصل في موضوع الاستقطاعات. الامر الذي ادى الى ردود فعل غاضبة قوية.
في ٢٧ شباط من عام ١٧٨٨ كتب ماديسون:”الحكم الصالح يعني شيئين. اولا، انه وفي لهدف الحكم المتمثل بتحقيق سعادة الشعب. وثانيا، انه يعرف طريق تحقيق هذا الهدف على احسن وجه”.
وقبل ذلك كان القران وعد الناس بالحياة الطيبة في قوله: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.

شاهد أيضاً

ازمة لبنان تعبر خطوط الإنذار

العاصمة بيروت تتعرض للقصف الجوي من العدوان الإسرائيلي ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى َوتهجير …

error: Content is protected !!