محمد عبد الجبار الشبوط
الاعلام ظاهرة قديمة في تاريخ البشر. ومنذ ان انقسمت الجماعات البشرية الى حكام ومحكومين كان هناك نوعان من الاعلام. اعلام يقف الى جانب الحكام، واعلام يقف الى جانب المحكومين. وحينما بدأت الدولة الحضارية الحديثة بالتشكل على اساس المواطنة والديمقراطية وسلطة القانون والمؤسسات والعلم الحديثة، بدأ الاعلام بالظهور بوصفه سلطة رابعة، او السلطة الرابعة. وتمثل دور السلطة الرابعة بتزويد المحكومين باخبار الحكومة، اولا، وبمراقبتها ثانيا، ونقدها اذا دعت الضرورة الى ذلك ثالثا، وبتوفير مساحة كافية للنقاش الحر رابعا، من بين امور اخرى ايضا، كالتسلية والترفيه.
وتفاوت موقف الحكام من الاعلام بحسب طبيعتهم. فالحاكم الضعيف يخشى الاعلام، والحاكم القوي يحترم الاعلام. ولا اقصد بالحاكم القوي الشخص صاحب القبضة الحديدية والقسوة والبطش، انما اقصد به الحاكم العادل، المقتدر، الكفوء، صاحب القاعدة القوية المؤيدة له من المحكومين، الذي وصل الى الحكم بارادة الاغلبية من المحكومين عبر الية ديمقراطية واضحة ومعبرة. وبحسب هذه المعايير فليس صدام حسين ولا ترامب من الحكام الاقوياء.
الحاكم الضعيف يخشى الاعلام، ويكرهه، ويتصور ان الاعلام يتآمر عليه، او انه على الاقل جزء من مؤامرة ضده.
وافضل مثال للحاكم الضعيف هو الرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب. فعلى المستوى الشخصي فان الرجل ليس زعيما سياسيا ذا تاريخ مشهود، ولم يتدرج في سلم الادارة والحكم، ورغم فوزه بالرئاسة، فانه لا يتمتع بقاعدة شعبية متينة. وما وصل الى البيت الابيض الا بسبب صعود الظاهرة الشعبوية في الولايات المتحدة لاسباب لا علاقة لها بشخص ترامب. وقد اظهرت التظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت بعد مقتل المواطن الاميركي الاسود فلويد ان هذه الظاهرة في طريقها الى الانحسار، حيث تدنت شعبية ترامب الى ادنى مستوى لها مقابل تصاعد شعبية المرشح الديمقراطي بايدن.
من اهم انجازات ترامب انه اشاع مصطلح “الاخبار الكاذبة fake news”، ودرج على اتهام وسائل الاعلام الاميركية الكبرى مثل قناة “سي ان ان” وصحيفتي “واشنطن بوست” و “نيويورك تايمز” بانها تروج للاخبار الكاذبة. ويكشف سلوك ترامب الخشن مع المراسلين الصحفيين عن موقفه العدائي للاعلام. وبالمقابل، فان الاعلام الاميركي لم يقصر في توجيه النقد والملاحظات القاسية لاداء ترامب، لان الاخير، رغم ثروته الطائلة وسلطاته الرئاسية الواسعة، لم يستطع ان يروّض الاعلام الاميركي ويسيطر عليه.
الاعلام المستقل والمهني والحر من ضمن القيم الحضارية العليا الحافة بالمركب الحضاري، فهو من شروط اقامة الدولة الحضارية الحديثة. لا يوافق ترامب على هذه المسالة وهو على خلاف مع “الاباء المؤسسين” للولايات المتحدة. وقراتُ ان هذا المفهوم كان “راسخا” في اذهانهم، حتى انه “وجد طريقه في اعلان فيرجينيا للحقوق”، “ولا بد ان توماس جيفرسون قد اخبر جورج واشنطن: ينبغي الا تكون هناك حكومة بلا مراقبين، وحيثما تكون الصحافة حرة لن يستطيع ذلك احد غيرها مطلقا”، كما ورد في كتاب “المباديء الاساسية للصحافة”. وقد اكد التعديل الاول للدستور الاميركي في ١٥ كانون الاول 1791 هذا المفهوم حيث جاء فيه: «حرية العبادة والكلام، والصحافة وحق الاجتماع والمطالبة برفع الأجور. لا يصدر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلمياً، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف.”. واستنادا الى هذا المفهوم حكمت المحكمة العليا باحقية صحيفة “نيويورك تايمز” في نشر وثائق سرية حكومية هي اوراق البنتاغون في عام ١٩٧١، وقالت:”منح الاباء المؤسسون الصحافة الحرة الحماية اللازمة لاداء دورها الاساسي الجوهري في ديمقراطيتنا. فقد كان على الصحافة ان تخدم المحكومين وليس الحكام”.
وللحديث بقية