عدنان أبوزيد
تجديد الخطاب الاجتماعي وترميمه، يُصبح واجبا مع انتقال الخطاب الإعلامي من التركيز على السياسة الى أدبيات ونظريات الحركات الاجتماعية وأبرزها التظاهرات، وما تفرزه من مفاهيم وسلوكيات جديدة في المجتمع العراقي تتجسد بشكل واضح في ساحات الاحتجاج التي تحمل الى جانب مقاصدها السياسية، الرغبة في التغيير الاجتماعي.
المثقف العضوي، سيكون عاملا حاسما في توجيه النقلات الاجتماعية، بما يمتلكه من أدوات اختبار وتشريح في تفكيك العقد الاجتماعية، الناجمة عن الجهل، والانغلاق على العالم طيلة عقود، فضلا عن الاشتباكات السياسية التي رسمت اتجاهات متخبطة في التطور الاجتماعي.
واذا كان دور المثقف يتلخص في توجيه بوصلة التغيير، وتنظيك السطوح الاجتماعية الجديدة، فانه وبحكم وعيه سيكون حريصا على الموروث الثقافي والعُرفي، وان لا يجعل من الإبدال فرصة للانفصال عن التاريخ، وحتى الجغرافيا، فيما يتوجب عليه تأطير النشاطات الثقافية للحركات الاجتماعية والبحث في الدوافع الاحتجاجية وتفسيرها لأصحاب السلطة والقرار السياسي.
المٌتوقّع، هو تقدّم الأنتليجنسيا والأيديولوجيات، الصفوف في التظاهرات التي تجاوزت كونها فعالية سياسية الى اجتماعية تفصح عن ارهاصات الجيل الجديد، ورنينه المتميز في أسلوب الحياة، وتطلعه الى أعراف مجتمعية جديدة، بحكم الانفتاح الذي تفرضه محرّكات التواصل العالمي.
من مخرجات التظاهرات، انحسار النظرة الدونية المُتبناة من قبل النخب الاجتماعية والسياسية تجاه أفراد المجتمع البسطاء والفقراء، الذين يتمكنون اليوم من امتلاك ناصية الخطاب، وقيادة الشارع، وفرض المطالب، والتحكم في الازمة وهو متغير اجتماعي يحتّم على المثقف العضوي تشريحه على منضدة التنظير والتطبيق.
أكثر من ذلك، فانّ على الأنتليجنسيا العراقية، الانتساب الى الدور التوجيهي القيادي الميداني، في المجتمع لاسيما الاحتجاجات، بدلا من الانكباب فقط على الأعمال الذهنية المعقدة، ذلك ان دورها يتجاوز التنظير الى ترسيخ
الفعل الاجتماعي الجديد، الذي يجب ان لا ينصرف من دون رياسة توجّهه نحو الأهداف المقصودة بعيدا عن الوجهات العرضية التي يمكن لها ان تحل محل الهدف النهائي.
تعوق التظاهرات الشعبوية في العراق والدول الأخرى، المفهوم الذي يرَكَن المثقف في أبراج من الترف الفكري المحض، المتعالي على التفاصيل اليومية في مجتمعه، وما يجب ان يحدث اليوم هو العكس تماما، ذلك ان الكثير من الثوريين الاجتماعيين في العالم استلهموا التحليلات والاستراتيجيات من التفاصيل الصغيرة، التي رصدوها من تفاعلهم الميداني مع الناس وحثهم الى عدم الارتهان الى الخيالات والأوهام، التي تعشعش في برامج تنميط الجهل.
يتحدث كتاب “صعود الأنتليجنسيا” بالإنكليزية عن النخبويين الثقافيين الذين يرون أنفسهم موظفين مفكرين تابعين للدولة الحديثة، ولم يتفاعلوا مع التظاهرات الشعبية التي اسقطت النظام الشيوعي في بولندا، مثالا، لا حصرا.
و يعرّف الفيلسوف كارول ليبيلت نخب الأنتليجنسيا في كتابه “عن حب الوطن” الذي صدر العام 1844، بانهم الأشخاص المتعلمون الذين يتعهدون بتعميق الأخلاق في ثورات التغيير.
وكان للأنتليجنسيا الدور في مشاريع التأميم في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة التي أسست لها الجماعات اليسارية، و كان لها الريادة في ترصين الحركات الاجتماعية الحديثة في فرنسا، وجّسدت الطليعة في التظاهرات التي قادها الشيوعيون في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في أوربا وحتى الولايات المتحدة.
في العراق، فانّ لا مناص من نزول الطليعة المثقفة الى الشارع، لاستيعاب تجربة شباب محتج خرج من بقايا اتون
أجيال الحروب، وان تكون حركة المثقف، جدية وعملية، لا حالمة فقط، على طريقة هنري ديفيد ثورو، الذي قال “عندما أسمع الموسيقى، لا أخشى أي خطر، أنا محصن”، ذلك ان استيعاب المتغير الاجتماعي العاصف الذي تجسده احتجاجات العراقيين يحتاج الى ما هو اكثر من رنين الآلات.