د. مظهر محمد صالح
دخل ميزان الاقتصاد الحكومي وبلا شك في عجز واضح بسبب تدهور معدلات النمو في قطاعه الريعي المهيمن، ذلك بدءاً من النصف الثاني من هذا العام وحتى النصف الثاني من العام القادم ليجر معه الاقتصاد الاهلي الى نقطة تعد أكثر ركودا بسبب التشابكات بين القطاعين الريعي والاهلي وهيمنة النشاط الحكومي على مكونات الناتج المحلي الاجمالي والمقدرة بما لا يقل عن ٦٣٪.
فمع درجة التعاظم في نسب النمو السنوي لسكان العراق المقدرة بنحو ٢،٦٪ (دون انضباط) وهبوط النمو في الناتج المحلي الاجمالي للبلاد (بسبب الركود الاقتصادي العالمي) والمقدر هو الاخر بنحو (سالب ٤،٥٪ سنوياً) فإن ركودا اجمالياً لامحالة سيصيب الاقتصاد الوطني برمته ويتسبب بانخفاض حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي نقدرها حالياً بما لا يقل عن ألف دولار سنويا للفرد الواحد. وبالوقت نفسه مازال الميزان الاقتصادي في القطاع الاهلي يمثل جانب القوة المحتملة وتتوافر لدية الامكانيات المالية من (مدخرات واموال سائلة او شبه سائلة) ظلت مرتفعة ولكنها راكدة تكافئ في القيمة قرابة نصف عوائد النفط المفقودة في عام ٢٠٢٠ في العراق.
وازاء هبوط روافع التمويل الكلية في الاقتصاد الوطني بسبب الركود الاقتصادي العالمي والوباء المتفشي، فليس من سبيل امام صناع السياسة الاقتصادية للعراق سوى البدء بالحلول الاضطرارية والاستراتيجية الممكنة معاً لإعادة الهيكلة التدريجية للاقتصاد الوطني وعلى وفق اهداف تشاركية ثابتة تُرسم خطوطها العاملة فوراً، وتبدأ خطوتها الاولى من الامد القصير والمتوسط وصولاً الى الحلول المثلى للأمد الطويل، ذلك لطي صفحة ريعية الاقتصاد والتي ستبقى تمثل القاتل الاقتصادي الرئيس لاقتصادنا (الاحادي الجانب)
فالتساؤل القائم في نهضة الاقتصاد الوطني تبدأ من الرافعة المالية المتاحة للبلاد حالياً وتتمثل في كيفية تحريك فائضات القطاع الخاص عبر آلية تمويلية سلسة ومضمونة المخاطر وبأدوات تتضمن الحد الاعلى من درجات اليقينcertainties ليتاح تعبئتها كموارد مالية خالية المخاطر وبضمانات تمتلك قوة السيادةsovereign guarantees في وقت واحد.
ان كيفية تعبئة فائضات القطاع الخاص العراقي المتراكمة حاليا وغير المتحركة في دورة الدخل والسعي لإعادة تدويرها داخل الاقتصاد الوطني تقتضي شرطاً من شروط الضرورةnecessary condition ، وهو الشرط الذي يستهدفه التدوير الاقتراضي للفائضات بان توجه تلك الموارد المالية خارج الموازنة العامة وتتجه حصرياً نحو نشاطات القطاع الاهلي. وهنا ستظهر اولوية الاستثمار في خيار مزدوج نحو مجالات انتاج شديدة التشغيل ومحققة قيم مضافة عالية في الدخل الوطني في آن واحد كقطاعات الاسكان والزراعة وبعض النشاطات الحرفية والمصنعية الممكنة المهمة. وان شرط الضرورة المنوه عنه انفاً يقتضي توافر عاملين اساسيين موازيين ومؤازرين لتسيير البرنامج الوطني لتمويل التنمية.
فالعامل الاول ويتمثل في كيفية الحفاظ على القوة الشرائية للأموال المقترضة من الاهلين وحمايتها من خلال توظيفها بأدوات الدين وتحصينها من التقلبات السعرية المحتملة (التضخم) ذلك بإصدار سند مقيس indexed bond ليكون أصل السند كأداة دين معرفة بأصول ثابتة القيمة سواء باختيار عملة اجنبية او الذهب او غيرها من الاصول المستقرة القيمة وبفائدة سنوية متوازنة. والعامل الثاني، يتمثل بتبني صندوق موجه بروافع مالية مستدامة لتمويل نشاطات القطاع الخاص المنتجة والتي تستهدفها تلك الاموال المقترضة من الافراد وهو صندوق التنمية الوطني للعراق.
وهنا تمنح الاولوية التمويلية للنشاطات الاستثمارية التي تستهدف كما نوهنا استخدام عوامل انتاج كثيفة العملlabour intensive وتعظم في الوقت نفسه القيمة المضافة في تكوين الناتج المحلي الاجمالي. وسيقع على عاتق الدولة شرطاً آخر هو شرط الكفايةsufficient condition لتنحصر وظيفتها هذه المرة صوب تشغيل صندوق التنمية الوطني للعراق بالشراكة مع القطاع الخاص من حيث راس المال وحقوق الملكية. وان هذه العلاقة التشاركية ستأخذ اتجاهين متكاملين ايضا، الاول: هو ان توفر الدولة كفالة القرض كرافعة مالية وحمايته من اي انكشاف او خسارة حتى تاريخ الاستحقاق والاتجاه الاخر، هو توفير الضمان اللازم للحفاظ على القوة الشرائية لأصل القرض وعوائده حتى تاريخ الاستحقاق ايضا. فوظيفة السياسة المالية الانمائية هنا تتلخص بالحفاظ على القوة الشرائية للقرض وعائداته منذ الاصدار وحتى الاطفاء واعداد المناخ التداولي اللازم في تبني السوق الثانوية لتعاطي السندات وتسييلها من جانب حامليها عند الضرورة.
وقدر تعلق الامر برأسمال الصندوق وحقوق الملكية فيه التي سيقوم على الملكية المساهمة بين الدولة والقطاع الخاص، فإنه سيتلقى مساهمة جدية من بعض المؤسسات المالية الدولية الداعمة والمؤازرة لنشاطات القطاع الخاص عند التأسيس كرأسمال equities، مثل مؤسسة التمويل الدولية. وبعض مساهمات منظمات وصناديق الاتحاد الاوروبي وغيرها بما في ذلك قبول المساهمة غير المباشرة في الصندوق من خلال قبول مبدأ ضمان مبادلة الاجهزة والمعدات المستوردة من منشاء عالمي اوروبي او غيره لمصلحة المستفيدين من الصندوق في القطاع الخاص العراقي .
واخيراً، فان قيام صندوق التنمية الوطني للعراق سيشكل النواة الجوهرية لإعادة هيكلة الاقتصاد الكلي باتجاه التمويل التدريجي من مصادر متنوعة سواء من اقتصاد الريع النفطي نفسه وبحصة ما التزم بها من عوائد الصادرات النفطية او اي خامات مستقبلية من عوائد صادرات الفوسفات او الكبريت والسليكون وغيرها من نشاطات اقتصاد خامات العراق stapled economy (المقبلة وليست البعيدة ) وعدها كحصص رأسمالية تستثمر بمنح قروض ميسرة من صندوق التنمية توجه لتمويل نشاطات القطاع الخاص بكونه المشغل الرئيس للتنمية ونهوض الاقتصاد الوطني والمصل المضاد للتطورات الريعية القادمة. فقيام صندوق التنمية الوطني كمسار لتنويع الاقتصاد الوطني والمنسجم واستراتيجية تنمية القطاع الخاص المعتمدة حالياً (دون تنفيذ واسع) يأتي لرفع مساهمة النشاط الاهلي في الناتج المحلي الاجمالي من واقعه الحالي المنخفض في تركيب الناتج المحلي الاجمالي والبالغ ٣٧٪ ليصبح ٥٠٪ فأكثر خلال السنوات الخمسة القادمة.
وسيمثل هذا التحول المهمة الاساسية والمنهج الاقتصادي لعراق ما بعد النفط، وستلقى على عاتق اجهزة التخطيط الوطني والمالية العامة ومجلس القطاع الخاص مهمة التحرك حالاً نحو استراتيجية مشتركة لهيكلة الاقتصاد الوطني وتنويعه وازالة مظاهره الريعية وبالتدريج. وعد المشروع بمجمله تحولاً إيديولوجيا لبناء اساسيات اعادة توصيف الاقتصاد الوطني من ملامحه الريعية المركزية الى السوق الاجتماعي المركزي المسؤول عن تنويع النشاط الانتاجي. ويرافق ذلك نظام تشريعي يؤسس بخطى قوية لإرساء البنية التحتية القانونية اللازمة لهكذا نمط من اقتصادات السوق المركزية المنتجة الواعدة بتنافسيتها.
ختاماً، فبالقدر الذي تساهم فيه الدولة بحماية الاقتصاد الوطني والسير بمعتقد التنمية المتجددة المنظور، فإن نمط السوق الاجتماعي كخيار اقتصادي يأتي لحماية سوق العمل والطبقة العاملة العراقية والمنتجين من آفة البطالة وهدر طاقاتهم البشرية فضلاً عن توفير اقتصاد وطني بتنمية مستدامة حقاً ومغادرة ريعية الاقتصاد الاحادية بالتنويع الشامل وبأدوات السوق التنافسية ومبادئها الاجتماعية.