ميساء الهلالي
في كل يوم ..نسمع عن مكتب جديد للهجرة يخرج على ارض الواقع ..يداعب بوعوده أحلام الشباب ..ويريهم الخارج من ثقب إبرة …يتمنون أن يتسع هذا الثقب حتى يجدون أنفسهم في الجنة ….ولكن لن يتسع إلا إذا دفعت أموال قد تضطر الشاب إلى بيع كل ما يمكن أن تقع عليه يده من مصوغات وأغراض …وبعض المدخرات …فاليوم مكتب يريد عمالة من الشباب العراقيين يسافرون نحو دولة ماليزيا ..وغدا مكتب آخر يمكن أن يوصلك إلى الولايات المتحدة بشكل قانوني ولكن ادفع …ومكتب يذهب بك نحو السويد حيث لا ترى أمامك سوى نهار ابيض مغطى بالثلج …فضلا عن المكاتب السرية التي تعمل تحت غطاء الليل ..وتعد الشباب بإيصالهم حتى ولو بشكل غير شرعي فالمهم أن يصلوا .
*حسنين ..شاب عبر العقد الثلاثيني بخمسة أعوام …يقول :
ـ لم أحقق شيئا في العراق …لا مورد مادي مضمون فكل يوم في عمل جديد ..ولا زواج لأن الزواج أيضا يحتاج إلى كم هائل من المصاريف ..وماذا بعد ..السنوات تمر …أريد السفر حتى ابدأ حياتي وأعيش ما بقي منها في راحة تامة ..بعيدا عن انقطاع التيار الكهربائي والماء ..واختفاء مشتقات الوقود من السوق ..والبطالة ..سأسافر قريبا إلى الولايات المتحدة ..حيث يقطن أخوالي منذ التسعينيات .
*وهل إن مكتب الهجرة الذي يمنيك بهذه الوعود يضمن سلامتك ووصولك إلى مبتغاك ؟
ـ آمل ذلك بعد فترة كانت أحلام حسنين قد تلاشت بسب الوعود الكاذبة لمكتب الهجرة ..إلا انه لم يفقد الأمل وبقي باحثا عن مكتب جديد بوعود جديدة ..أو هجرة غير شرعية بشرط الضمان.
*تلك هي الهجرة تتحمل الفوز والخسارة كما هي مباراة كرة القدم ..فالخاسر يخرج من اللعب ..والفائز يطمح لما هو أكثر ..ومن المتعرف أن الهجرة …تمكنت من الشباب الفقراء ..ولكن يبدو إن الأغنياء وأصحاب الكفاءات صاروا يبحثون عن الهجرة طمعا في التغيير أو طلبا للراحة ..أو هربا من شيء ما يهددهم .
يقول (علاء) وهو طبيب …لديه عيادة خاصة ..سأهاجر قريبا إلى ألمانيا بعد أن تكتمل كل الإجراءات .
*كيف؟
ـ لي صديق هيأ لي الوضع هناك.
*ولكن حسب علمي فألمانيا لا تتقبل لاجئين عراقيين؟
ـ لكني سأحصل على لجوء .
*وتترك كل ما أنت فيه من نجاح هنا ..عيادتك …وضعك المادي الجيد …بيتك؟
ـ لا شيء من هذه الأشياء يساوي راحة البال التي سأحصل عليه بالسفر ورؤية الحياة على حقيقتها .بعيدا عن كل المنغصات التي تحيط بنا كعراقيين.
*بعد فترة اتصل علاء من (الكمب ) وهي منطقة محصورة تقع خارج المقاطعات في الدول وعلى الأغلب تكون في منطقة معزولة تماما ..ينتظر فيها اللاجئ إلى أن يحصل على إذن الإقامة …أو تتم الموافقة على قبول لجوئه ..اتصل الطبيب باكيا :
ـ العراق أجمل من كل المناظر الجميلة هنا ..يبدو إن الحبس الإنفرادي للمهاجرين سيطول هنا في الكمب ..أصبت بالإحباط ..فهناك مهاجرون يعيشون منذ سنوات في الكمب دون الحصول على إقامة.
*عن هذا الوضع يتحدث (احمد السلامي ) وهو احد المهاجرين العراقيين المستقرين منذ عدة سنوات في هولندا ..يقول :
ـ الكثير من المهاجرين يصطدمون بالواقع بعد أن تطول مدة بقائهم في الكمب …فهم يمنون أنفسهم بآمال كبيرة في العيش الرغيد في بلاد أكثر جمالا وحضارة ..أنا شخصيا حصلت على الجنسية الهولندية ولكني مستعد لتمزيق هذه الجنسية مقابل الجلوس مع عائلتي .أبي أمي إخوتي …لساعات ..الحياة في الغرب مؤلمة ..من الخارج هي مناظر جميلة ووجوه جميلة ..إلا إن المهجر هناك فاقد للحقوق ..مثل الحق في العيش وفق مزاجه ..فلا حق له في الدفاع عن حقوقه …لا حق له بالشجار أن تعدى عليه احد فهو يكون مهددا بإرجاعه إلى العراق ..لا حق له في تربية أطفاله وفق ما يريد ..حتى الكل ..لا حق له في تناول كل ما يرغب ..وفي ذلك الشق هناك قصة حدثت معي في بدايات هجرتي .فقد اشتقت إلى تناول الأكلة العراقية الشهيرة (الباجة) هنا في هولندا يبيعها الأتراك في أسواق خاصة وفق تعليمات صارمة …اشتريتها ..وطبختها زوجتي في البيت بعد أن أغلقنا جميع النوافذ حتى لا يشم الجيران الرائحة ..وبعد أن تناولنا غداءنا ..عبئت العظام في كيس وأخذتها لأرميها في حي آخر ..لأن الشرطة كانت ستفرض علينا غرامة وقد يشتكي احد الجيران أن اكتشفوا إننا وضعنا في كيس النفايات عظام (باجة)!!
*حكايات المتغربين كثيرة ..منها حكاية المرأة التي كانت سببا في اختفاء زوجها ..والكلام لها :
ـ حصلت على دعوة ضم شمل من شقيقتي المقيمة في النرويج ..وأخذت أطفالي وسافرت .وبقي زوجي يحاول اللحاق بنا بشتى الطرق الشرعية ولكنه لم يحصل على حق اللجوء ..وأرسلت له المال وأبلغته هاتفيا باللجوء إلى الطرق غير الشرعية ..عن طريق شمال العراق ..وفعلا اتفق مع مهربين ..وبعدها انقطع الإتصال به ..ولم اعد اعرف عنه شيئا ..وبقيت انتظره لثلاث سنوات …ولكنه لم يصل ..واستعلمت من بعض الأشخاص الضالعين بالهجرة اللاشرعية وعلمت بان الكثير من المهاجرين غير الشرعيين يتعرضون للقتل وسرقة أموالهم في البحر أو في الصحراء ..مادام لم يصل فهذا يعني انه قتل …وصدمت لما سمعت وأصابني تأنيب الضمير وقررت العودة ..وعدت إلى العراق ولعنت اليوم الذي فكرت فيه بالهجرة. اليوم …في بغداد ..يوجد مكتب للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية …آلاف العراقيين قدموا أوراقهم من اجل الحصول على اللجوء …تأمل الولايات المتحدة أن تنفذ برنامجها في تهجير 12 ألف عراقي خلال هذا العام …ما مصلحتها الشخصية ياترى ..هل هي تفعل ذلك لتنتشل العراقيين من ظروفهم الصعبة التي يعيشونها ..كما تدعي ..او إن مصالحها الشخصية التي تغلب على أي شيء هي الدافع الحقيقي وراء ذلك .. العراقي ..فاقد للراحة في كل مكان!
يهاجر العراقيون طلبا للراحة ..إلا أنهم يصطدمون بواقع أنهم باقون بدون راحة بال ..والكلام لجمال قاصد وهو مهاجر جاء إلى العراق في زيارة للأهل : ـ كنت احلم بالهجرة وظننت بأني سأحقق أحلامي هناك حيث بلاد الضباب والحرية ..ولكني اكتشفت باني صرت بلا حرية ..قيدت نفسي بقيود صارمة اسمها انعدام راحة البال والتعذيب النفسي …فكل العراقيين المهاجرين يصابون بهذا المرض وسببه هو قضاء باقي حياتهم بلا راحة ..فهم لا يرتاحون حين يزورون العراق ..اذ جئت متلهفا ظانا في البداية بأني سأستقر ولا أعود ..واشتريت بيتا ..ولكن بعد مرور أسبوعين بدأت أضيق بالحر وانقطاع التيار الكهربائي ..والعواصف الرملية ..والماء غير المصفى …وقلة عدد الأماكن الترفيهية …وحين أعود أصاب بنفس المرض كون انعدام الراحة هناك ينتج من الشعور بالوحدة …فلا احد يساندك من اهلك ..في العيد تحتفل وحدك دون أن تحس بمظاهر العيد التي تنتشر في بلادنا …وباقي البلاد الإسلامية …تبقى تنظر إلى صور أحبائك وتبكي حسرة ..لا أنت قادر على العودة ..ولا أنت قادر على البقاء وهو عذاب مستديم . خروقات قانونية : في الغرب ..حيث القوانين الصارمة ..يصعب تعود أبنائنا عليها .فالعراقي لا يلتزم كثيرا بالقوانين ..قوانين السير ….ومراعاة الذوق العام …وقوانين الشارع ..وغيرها من القوانين .التي تجعل الحياة الغربية منظمة ..كما لو كان الجميع يتحركون وفق نظام آلي لا يستوعب التغيير وبمجرد التغيير سوف يحدث ما نسميه (لود) أو خطأ ..فكيف سيخضع العراقي لكل القوانين التي يراها مبالغ فيها …تقول السيدة (بان) :
ـ أنا متزوجة منذ خمس سنوات من قريبي الذي يسكن في الولايات المتحدة …ولكني لم أتمكن حتى اليوم من اللحاق به لسبب بسيط هو انه لم يحصل على الجنسية لأنه يخرق القانون رغم مضي أكثر من خمسة عشر عاما على وجوده هناك ..والقوانين التي يخرقها ننظر إليها هنا بتفاهة ..مثل قوانين السير …وآخر خرق قام به هو قيادة السيارة فيما كان أطفال المدرسة يعبرون الشارع رغم ان الإشارة كانت تشير إلى عبور السيارات وليس المشاة ..ولكنهم فضلوا أن يقف جميع السواق حتى يعبر جميع الأطفال ..وكل خرق للقانون يجعلهم يتعصبون أكثر ولا يمنحونه الجنسية التي ستسهل سفري إليه ..عن طريق دعوتي ..ضقت من أسئلة الناس .ومن مضايقات الشارع …منهم من يقول انه تركني وهرب .منهم من يؤنبني لأني ارتضيت بمثل هذا الزواج …حقيقة لا اعرف ما الذي يمكن أن أقوله ..هل أقول لهم زوجي يخرق قوانين السير ولا يمنح الجنسية لأجل ذلك …المشكلة إن العراقيين في داخلهم متمردون …كيف يمكن تسييرهم كبشر آليين في الوقت الذي قضوا نصف حياتهم في العراق حيث لا يعترف بكل تلك القوانين ..وان اعترف بها لأن العراقي يبقى ينظر إليها بإستخفاف. يبقى سوق الهجرة مفتوحا ..ما دام العراقيون يعيشون في عذابات يومية .باحثين عن الإستقرار خارج بلدهم بعد أن فقدوه في داخله …وما دامت المغريات موجودة فلن يبقى في العراق مستقبلا سوى الفقراء جدا ..والمتأصلون بحب العراق جدا …ولكن لا بد من قيام الحكومة بإعداد برامج تثقيفية حول مساوئ الهجرة ..وتبيان مساوئ اللجوء إلى السماسرة الذين لا يهمهم سوى جني الأموال على حساب أرواح آلاف العراقيين …ولو توفر للعراقي ابسط حقوقه لذهب للغرب سائحا وليس مهاجرا كما المواطن في كل بلد خارج حدود العراق.