صوتها/مقالات
د. أحمد ابريهي علي
اعدت الكثير من الدراسات في توزيع الدخل والرفاه، واقترحت استراتيجيات لمكافحة الفقر وازالة الحرمان لا نريد الخوض فيها، بل مناقشة معايير للعدالة التوزيعية وامكانية التقارب حول توجهات في ضوء خصائص الاقتصاد العراقي. وسوف يتبين ان السياسات المتعارف عليها لتوزيع الرفاه تتطلب نضج الاقتصاد ورقيه التنظيمي. ولذا يتعين ان تهتم التنمية بإرساء المقومات الموضوعية للعدالة، كما تلح الحاجة الى البحث عن مبتكرات تناسب مرحلة الانتقال والتي قد تطول مدتها.
حول مشكلة العدالة التوزيعية ومعيارها:
تهتم فلسفة العدالة التوزيعية بالتفاوت في الثروات والمدخولات ومستويات المعيشة والرفاه بأبعاده المختلفة. ولا يكفي مبدأ تكافؤ الفرص لتبرير الاختلاف في المعيشة والرفاه، لأن افراد الناس يختلفون اساسا في الاستعداد والنشأة الاولى فمنهم ضعفاء يعجزون عن مجارات ذوي القدرات العالية في السباق المحموم على الموارد. وايضا ثمة نواقص في انظمة المجتمع والاقتصاد والسياسة لها اضرار قد تكون فادحة من المحتمل ان يتعرض لها أي انسان، ولذا لا بد من كفالة المجتمع للأفراد. وهذا لا يعني تعطيل حقوق الملكية، فقد اقرت الاديان والاعراف والقوانين الوضعية استحقاق الأشخاص لما في حوزتهم طالما كانت تلك الحيازة بالسبل المشروعة. لكن الثروة لها وظائف اجتماعية كما يخضع الانتاج واكتساب الدخل الى معيارية تعبر عنها الدساتير وقوانين الضرائب والاعانات ومختلف ضوابط التنظيم، لإدامة الكيان الاجتماعي والشراكة العادلة بين الناس في ذلك الكيان.
ويعود التفاوت اصلا الى اختلاف الأفراد في الانتفاع من فرص العمل والملكية والوصول الى المعلومات والنفوذ، وتتفاعل تلك العوامل مع آليات السوق وسياسات الحكومات لتظهر في التوزيع الأولي، الوظيفي، للدخل المولد بعملية الانتاج بين أطراف العلاقة الإنتاجية. وتحكم التوزيع الأولي آليات معقدة هي موضوع رئيسي لعلم الاقتصاد من بداية زمن الكلاسيك الى يومنا، لكن التنظير انشغل، اساسا، بتوزيع الدخل بين الأجور ( تعويضات المشتغلين) والفائض ( الربح والفائدة والريع) أي كيفية تقاسم الأصناف، الطبقات، الدخل المُنتج. لكن التفاوت بين الاجور لا يستهان به كما يتوزع الفائض على فئات عديدة تختلف فيما تملك. وفي العراق تشغَل انشطة الذين يعملون لحسابهم الخاص او الوحدات الفردية للنشاط حيزا مهما في القطاع الخاص وفي هذا النطاق يكون الدخل مختلطا أي لا يوزع بين الاجور والفائض.
وتركز دراسات العدالة التوزيعية على ما يصل الى الاسرة من الدخل المولد في الانتاج، والذي يكشف عن خلل النظام وخصائص الاقتصاد وآثار البطالة وعدم القدرة على كسب الدخل وعلاقة الاستهلاك بالدخل واعباء الإعالة. وبعد اضافة الاعانات واستبعاد الضرائب، وصولا الى الدخل الأسري الممكن التصرف به، تسمى هذه المرحلة التوزيع الثاني للدخل، وهي مدار العدالة التوزيعية. ويعكس اختلاف التوزيع الثاني عن الأولي مدى عناية المجتمع ودولته بالإنسان، وبالأخص عند الاهتمام بالمدى الاوسع للمعيشة والرفاه في السكن والبيئة السكنية والخدمات العامة الاساسية والأمن والجوانب الأخرى اضافة على الدخل والاستهلاك.
وعادة ما يتخذ مبدأ المساواة التامة بين الناس نقطة الانطلاق، وتشترك مقاييس التوزيع في مدى ابتعاد الواقع الفعلي عن المساواة التامة. وثمة تحفظات على اطروحة التوزيع المتساوي من جهة تباين الناس في الاستعداد لبذل الجهد وتحمل المشاق من اجل الكسب، ولذا فإن المساواة التامة، في مرحلة التطور المعاصرة للبشرية، قد تؤدي الى تثبيط الهمم فينخفض مجموع الناتج. ولذا يمكن قبول مقدار من عدم المساواة طالما يؤدي الى الازدهار الاقتصادي ولا يلحق ضررا بالفئات الأضعف في المجتمع. وقد عبّر جون راولز، الأمريكي المعروف في الفلسفة السياسية، عن هذا الفهم واسماه مبدأ الفرق او الاختلاف. واقترح امارتيا سن، مقاربة الكفاية الوظيفية ومفادها ضمان حد ادنى من الموارد لكل انسان لمزاولة الحياة الكريمة: التعلم؛ وتكوين اسرة؛…؛ ثم شيخوخة مريحة. ومن زاوية اخرى ينظر الى العدالة التوزيعية بالانسجام مع لوائح حقوق الأنسان والتي لا يمكن التمتع بها إلا مع موارد كافية، لأن الفقر يعيق الحرية ويمنع الفقير من مزاولة العضوية الطبيعية في المجتمع ويتعارض مع المساواة بين الناس في حق الحياة واستحقاق الكرامة. وثمة ارتباط بين المكانة والنفوذ السياسي والثروة، ولذا فإن التفاوت الحاد يتعارض، فعليا، مع المساواة في الحقوق السياسية إذ يتضاءل دور محدودي الدخل والضعفاء في الفضاء العام وصناعة الحياة المشتركة.
وتوجد كثرة من المقاربات الفلسفية والاخلاقية للعدالة التوزيعية، لا تتسع لها هذه المقالة، ولا توجد منظومة فكرية، هذا الزمن، تتنكر لوجوب، او على الاقل استحسان، اتخاذ ما يكفي من التدابير لتجنب تعرض الناس للحرمان وهو ما عليه كل الدول المتقدمة بغض النظر عن ايديولوجيات الاحزاب الحاكمة، وما تقره ايضا جميع البلدان النامية. ولقد شجع الاسلام الإنفاق بسخاء للفقير والمعسر، والإقراض غير الربوي للتيسير، اضافة على الحقوق الشرعية المعلومة في الأموال، ونهى عن الشراهة في مكاثرة الثروات واكتنازها وعدم انفاقها في سبل الخير، ومن غير المقبول في الاسلام ان يبات الأنسان شبعانا وجاره جائع. وكذلك الاديان الأخرى والأخلاق السائدة، ويتعاطف الانسان السوي مع المعذب المحروم ويتألم لأجله.
ويضيف المورد النفطي ابعادا اخرى الى اشكالية العدالة التوزيعية كونه لكل الشعب دون تمييز بمعنى تساوي العراقيين، بصرف النظر عن دورهم الإنتاجي، في الانتفاع منه. ولأن المورد النفطي جزء كبير من الدخل الوطني فلو جرى التصرف به استنادا الى هذا المبدأ الدستوري ينتفي احتمال الفقر اصلا دون سياسات اضافية.
يشترك الناس في فطرة الاحساس بالعدالة وهي منبع الفلسفات الاخلاقية، ومنها العدالة التوزيعية، والميل للتقارب من ضرورات الاجتماع الانساني والاستقرار وما أحوجنا اليه في العراق لا سيما في مسائل العدالة الاجتماعية عموما والتوزيعية على نحو أخص.
دخل ومعيشة الأسرة العراقية:
ارتبطت تغيرات مستوى المعيشة بتحولات المورد النفطي وخاصة اتفاقية مناصفة الارباح مع شركات النفط الأجنبية عام 1952، وتأميم النفط وتغير اسعاره مطلع السبعينات.
واظهر مسح دخل وانفاق الاسرة لعامي 1971 – 1972 ان متوسط انفاق الفرد السنوي 80 دينار تقريبا، وفي عام 1976 ارتفع الى 157 دينار، وفي عام 1979 بلغ 235 دينار. بمعنى ان متوسط الاستهلاك ارتفع الى 294 بالمائة عام 1979 مما كان عليه عام 1972 بالأسعار الجارية، وعند استبعاد التضخم تبقى الزيادة الحقيقية بحوالي 50 بالمائة بين ماقبل التأميم ونهاية السبعينات. وبالمتوسط للسنتين 1984 -1985 وصل استهلاك الفرد الى 520 دينار، أي ان السياسة الحكومية تعمّدت استرضاء الاسرة العراقية رغم تراجع ايراد النفط والاقتراض من الخارج، بينما في عام 1988، وعند الاصطدام بقيد الموارد، كان متوسط استهلاك الفرد 656 دينار بالأسعار الجارية، وبالقيمة الحقيقية بنفس مستوى عام 1979 عند اعتماد الرقم القياسي لأسعار المستهلك، وقد تكون ادنى عند الاخذ بالاعتبار مشكلة الازدواج السعري.
ومن المؤشرات الدالة على انخفاض مستوى المعيشة نهاية حرب الثمانينات ان نسبة الاجور والرواتب من مجموع الدخل الاسري كانت 45 بالمائة عام 1979 هبطت الى 24 بالمائة عام 1988. ويفسر هذا النمط من التحول بعلاقة الاسعار مع الدخل. ّإذ تنتفع انشطة الانتاج، الزراعي والصناعي والتجارة والنقل والخدمات غير الحكومية، من حركة المستوى العام للأسعار ويبقى اثر التضخم محايدا بالمتوسط مع تفاوت تبعا للوفرة والشحة النسبيتين. اما الرواتب وخاصة الحكومية، واصناف اخرى من الدخل مثل الايجارات فتبقى، على الاكثر، ثابتة او تتحرك ببطء فتنخفض قوتها الشرائية واهميتها النسبية في حياة القطاع الاسري.
واستمر اتجاه انخفاض القوة الشرائية للرواتب واهميتها من مجموع الدخل في سنوات الحصار والتي شهدت تفاوتا حادا في توزيع الدخل والثروة. ومنذ عام 2003 استعاد العراق نمط التوسع الاستهلاكي، وتنامي الدخل الأسري، بوتيرة عالية وتنوعت سلة الاستهلاك وثقل المستوردات فيها. لكن العراق شهد في السبعينات جهدا تنمويا مع اختناقات كانت واضحة في تنافس المشاريع على امكانات تنفيذ محدودة وشحة المواد الانشائية وزحام الطرق وما الى ذلك. بينما بعد عام 2003 كانت التنمية الصناعية والزراعية بطيئة ومتعثرة وتوسعت قطاعات التجارة الداخلية والنقل والخدمات السياحية وغيرها وتعمّق الاختلال في بنية الانتاج.
ويكشف المتغير الديموغرافي عن حقائق كبيرة إذ ارتفع حجم السكان الى ثلاثة امثال ما كان عليه عام 1980، ويمكن ملاحظة ان متوسط صادرات النفط للفرد عام 2018 حوالي ثلث ما كانت عليه بداية عام 1980، وعند تحويل اسعار النفط آنذاك الى قوتها الشرائية بدولارات 2018 يتضح ان متوسط الدخل النفطي للفرد في العراق ايضا يقارب ثلث مستواه آنذاك. لكن مستوى المعيشة بدلالة حجم الاستهلاك للأسرة اعلى من مؤشرات عام 1979، الآنفة، بفارق واضح، لأن اغلب موارد النفط اخذت طريقها للقطاع الاسري بشكل او بآخر. فلقد ادت سياسة الدولة بعد عام 2003، لتخفيف ضغوط البيئة السياسية العنيفة والتوافق والاسترضاء، الى استيعاب جزء كبير من الموارد البشرية في اجهزة الدولة، وارتفعت نسبتهم من مجموع السكان الى أكثر من ضعف ما كانت عليه نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وهذا من جملة اسباب غلبة الطابع الاستهلاكي على اقتصاد العراق بعد عام 2003. ولقد تزايد دور الدخل من المصدر الحكومي في حياة الاسرة العراقية كثيرا، تبعا لما تقدم، رغم الانحسار النسبي للقطاع الاقتصادي العام من غير النفط الخام. ولذا أصبح الدخل المكتسب من الدولة له دور كبير في توزيع الدخل الأسري والرفاه الاستهلاكي.
السكان والخدمات العامة:
كان سكان العراق عام 1977، 12 مليون نسمة منهم 64 بالمائة في الحضر، و32 بالمائة من السكان الحضر في بغداد، وأصبح سكان العراق عام 1987 تقريبا 16.3 مليون نسمة بمعدل نمو سنوي 3.1 بالمائة، وارتفعت نسبة السكان الحضري الى 69 بالمائة من مجموع السكان، وحافظت بغداد على وزنها النسبي من مجموع السكان الحضري. وبيّن تعداد 1997، وهو الأخير، استقرار نسبة السكان الحضر على ما وصلت اليه في الثمانينات تقريبا، ويرجّح من الاخبار والمشاهدات الشخصية انخفاض نسبة سكان الريف بعد عام 2003 وبالأخص منذ عام 2014. ويتضح من المقارنة مع الدول النامية تسارع العراق مبكرا نحو التحضر والتركز السكاني في العاصمة. وبالانسجام مع هذا النمط من تزايد الحجم السكاني، والذي يقترب من 39 مليون نسمة عام 2018، ينمو الطلب على البناء التحتي بالمجمل بحوالي 3.5 بالمائة سنويا بفعل العامل الديموغرافي لوحده. وعندما يضاف اثر الدخل، والتطور الحضاري في العالم ومتطلبات سد الفجوة الابتدائية للعجز، يرتفع الجهد الاستثماري المطلوب في هذا المجال الى مستويات لا تجاريها القدرات التقنية والتنظيمية في وضعها الحالي، ولذا اصبح التغيير ضروريا لإدامة الحياة في المدينة العراقية بالحد الادنى.
يُعد البناء التحتي والخدمات العامة من المحددات الرئيسة لمستوى المعيشة في المجتمعات المعاصرة، لأن حياة الأسرة نسق متكامل مع المدينة: شبكات المياه والصرف الصحي؛ والطرق؛ والكهرباء؛ وخدمات التعليم؛ والصحة؛ والأمن؛ والتسوق؛ وفضاءات النزهة وانشطة الثقافة… ولذا يمكن النظر الى المدينة بصفة البيت الكبير. ولتلك الأسباب تُلاحَظ العلاقة النمطية بين الاستهلاك الأسري والأنفاق العام على البناء التحتي والخدمات العامة في العالم. وفي الدول الاعتيادية، غير النفطية، تتفاعل احتياجات السكان للخدمات العامة مع الموازنة المالية والسياسة الضريبية وإدارة برامج الاستثمار الحكومي، كي يتبلور ذلك النمط من الاتساق بين الاستهلاك الخاص والانتفاع من وسائل الرفاه المشتركة والتي تسمى اصطلاحا السلع العامة.
في ثمانينات القرن الماضي استمر البناء السكني بالتوسع في المدن بأحياء جديدة لا تتوفر لها الابنية التحتية الكافية مثل الطرق وشبكات الصرف الصحي اضافة الى العجز الابتدائي المعروف في الأخيرة. وفي زمن الحصار وما بعده، تقريبا، خرج البناء السكني من حاكمية الضوابط العمرانية.
ومن بين الأسباب ان تصاميم المدن ليست مرنة بحيث تستوعب الضغوط العمرانية والتحولات الاقتصادية واسعار الاراضي. والجهات المعنية لم تتمكن من التوافق مع الغاية الاساسية من تصاميم المدن وهي الاستخدام الامثل للأرض في ضوء الطلب الاقتصادي، الانتاجي، والخدمي والسكني على الاراضي والتكامل الوظيفي للمستوطنات البشرية. والدوائر المعنية تكاد لا تميز بين انتهاك حقوق الملكية، للدولة والأشخاص، ومخالفة التصميم العمراني، واشاعت هذه الثقافة التباس في فهم الحقوق بينما تتطلب التنمية وعيها وحمايتها.
ولقد فرضت تلك العوامل واقعا عمرانيا على الارض، يتطلب التعامل معه ايجابيا بالمبادرة الى اعتماد نظام مرن في تعديل التصاميم لاستيعاب الواقع. وذلك بشرط احترام حقوق الملكية لجميع الاطراف ثم التسوية المالية العادلة لإقرار ما على الأرض وتثبيته في التصاميم الجديدة، وبالتدريج تستعاد سلطة الضوابط العمرانية لأنهاء العشوائية، والارتقاء بأوضاع المدينة العراقية لتُماثل قرينتها في الدول المتقدمة.
ويلاحظ، في العراق، ومنذ البداية تخلف الأبنية التحتية للمدن والخدمات العامة عن مواكبة التوسع السكني، وتتسع الفجوة سنة بعد أخرى. وقد اضافت هذه الظاهرة عوامل اخرى للتفاوت اصبحت صارخة في اماكن عدة بين مستوطنات لا تتوفر لها وسائل العصر الحديث ويعاني الاهالي قسوة البيئة السكنية وبعض الاحياء تنعم بخدمات كافية.
بنية الإنتاج والعدالة التوزيعية:
من التحديات الكبيرة امام السياسة الاقتصادية ان اسهام الزراعة والصناعة التحويلية في الناتج غير النفطي تراوح بين 25 بالمائة الى 34 بالمائة من الناتج المحلي غير النفطي للسنوات 1986 -1989 إنخفض الى ما يقارب 13 بالمائة للسنوات 2009 – 2015 بالمتوسط. لكن الحصار كشف عن عدم كفاءة في الصناعة التحويلية بحيث لا تمتلك مقومات الاستمرار اقتصاديا انما يعتمد وجودها على الدعم المالي والسياسي، ولذلك تلاشت في سنوات الحصار وفيما بعد توقفت تقريبا عندما لم تجد بيئة سياسية ملائمة.
ونظرا لارتباط العدالة التوزيعية، كما تقدم، بتوليد الدخل وتوزيعه الأولي اوثق ارتباط، ولأن دور الزراعة والصناعة التحويلية في الناتج غير النفطي يدور حول 13 بالمائة، صار العمل في اجهزة الدولة مصدرا رئيسا للدخل الاسري، و ذلك الى جانب البناء والتشييد والنقل والتجارة الداخلية والخدمات غير الحكومية. وعند النظر في تنظيم الاقتصاد خارج اجهزة الدولة نلاحظ غلبة الوحدات الصغيرة والفردية في القطاع الخاص والكثير منها ليست موثقة رسميا. ومن دلالات التخلف التنظيمي للاقتصاد ضآلة تحصيلات ضريبة الدخل التي قد لا تزيد عن 2 بالمائة من الناتج. ويتعذر، تقريبا نشر تقديرات منتظمة عن التشغيل والبطالة لتداخل مفهوم الأخيرة مع العمل في الانشطة الفردية والهامشية والعمالة اليومية، او الاشتغال ضمن النشاط الاقتصادي للأسرة كما في الزراعة. وفي الغالب يصعب التمييز بين العمل الجزئي او الاشتغال المنتظم بالوقت الكامل.
اما بيانات مسوحات دخل وإنفاق الاسرة فهذه تقدم صورة احصائية تقريبية تغذي الدراسات الكلية او تقديرات الفقر والحرمان، بينما تتطلب سياسات التشغيل ومعالجة البطالة التعرف على ميادين العمل والتفاعل مع خصائصها، وتوليد وتوزيع الدخل والاجور وما اليها، في وحدات النشاط وكيفية التأثير عليها ان أمكن.
ولتلك الأسباب يتزايد تطلع الشباب نحو الدولة في البحث عن فرصة عمل من جهة والتركيز السياسي على الدخل المكتسب من الدولة من جهة اخرى. وفي هذا السياق ايضا يكاد ينحصر الحوار حول العدالة التوزيعية في نطاق قطاع الدولة والتفاوت، بين فئات العاملين، في الرواتب ومجموع المكاسب.
وبناءا على تلك المقدمات تبقى العدالة التوزيعية ومستقبلها مرتبطة بقدرة العراق على الانتقال نحو اقتصاد منظّم وتقنيات معاصرة وتكون وحدات النشاط المهيمنة، على الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي، بين متوسطة وكبيرة، وتتجه عمليات التشغيل واكتساب الدخل نحو التنميط تدريجيا بما من شأنه تسهيل فاعلية السياسيات الاقتصادية. ويفهم من دراسة واقع الانتاج وتنظيمه ان اعتماد استراتيجية للتنمية الاقتصادية تقوم على التصنيع والتنويع تهيء الشروط الموضوعية للعدالة التوزيعية.
واوضحت التطورات الاخيرة الاهمية الاجتماعية والسياسية لإخضاع العمل في الدولة والرواتب ومجموع المكاسب لسقوف مناسبة وحدود دنيا وان يبقى مدى التفاوت محدودا بحيث يعزز الثقة بعدالة النظام السياسي والولاء لوحدة المجتمع. اما حجوم المنتسبين في مختلف اقسام الدولة فإن اخضاعها الى معايير الكفاءة من أصعب المهام ومن الافضل تنسيقها مع التنمية وما تسفر عنه مستحدثات وفرص عمل.
وفي هذا الخضم قد يتعذر تنظيم التشغيل وحصر البطالة وتعويضها ومن الافضل التركيز على الاسرة ذات الدخل الواطئ او التي تعجز عن اكتساب الدخل. أي ان تكون المعالجة لسلبيات خصائص الاقتصاد والسياسات في قطاع الأسر وعبر شبكة معلومات تراتبية وصولا الى أصغر نطاق سكني، وتصنيف الأسر حسب احتياجها للتدخل وحسب اسباب حرمانها ومقدار ما تحتاج اليه. هذا من جهة الدخل، اما اوجه الحرمان الأخرى واهمها السكن او العلاج او سواها فإن التدابير الخاصة تنحصر بالأسر التي فقدت القدرة على اكتساب الدخل وتبقى تحتاج بصفة دائمة الى التدخل، اما الاصناف الاخرى من الفقراء فإن اعانة الدخل واشكال اخرى من الدعم قد تكفيهم.
وبصفة عامة يبقى توزيع الثروة والدخل مهما لذاته باستقلال عن معاناة الفئات المحرومة والتي تضيف الى اهميته اخلاقيا واجتماعيا. وعند النظر في تجارب الدول نجد الفاعلية العالية للضرائب في اعادة التوزيع. بينما بقيت الضرائب في العراق واطئة الفاعلية لأن حجومها لا تتناسب مع الدخل الوطني او مجموع الدخل الخاص كي تترك اثرا تصحيحيا. بتعبير آخر يمكن القول بعدم وجود توزيع ثاني للدخل في العراق انما اعانات حكومية من مورد النفط صريحة او مستترة تحت مسميات اخرى.
ولا يمكن اغفال تفاوت الدخل والثروة بين المناطق، المحافظات وفيما بين وحداتها الادارية واجزاء المدينة الواحدة وبين الريف والحضر، ولا زالت وسائل معالجة هذا النوع من التفاوت ضعيفة او تنعدم احيانا. كما تختلف الخدمات العامة في تغطيتها للسكان ونوعيتها بين المدن واحياء المدينة الواحدة. ومن الضروري المباشرة بتلافي هذا التفاوت ضمن سياسة موحدة وبالتزامن مع مسوحات تفصيلية واعادة تصميم المدن وتصحيح اوضاعها الحالية.
اما الارياف فقد كانت دائما أدنى في مستوى المعيشة من الحضر وفي وصولها الى الخدمات العامة، وهنا من الافضل تنسيق سياسة العدالة التوزيعية مع مهمات التنمية الزراعية.