صوتها/هن
عندما قرّرت أن تخوض غمار الأعمال لم تفكّر يوماً في الشهرة، بل كان همّها أن تقوم بعمل تهواه منذ صغرها. لطالما جذبها عالم الموضة والفنّ والذوق، فوجدت لنفسها في مجال المجوهرات حيّزاً من المتعة والإفادة والاستفادة في آن معاً. غاصت السيدة فيفيان دباس في اكتشاف هذا العالم من الأحجار الكريمة وصناعة المجوهرات بأدقّ تفاصيلها حتى اكتسبت المعرفة التامة في هذا المجال، وشقّت طريق شهرتها فيه من باريس إلى لبنان.
إلا أنّ وصولها إلى الريادة في هذا المجال لم يلغِ عندها الحسّ الإنساني، فلم يغب عن بالها الشأن الاجتماعي الذي أشعرها بالسعادة والرضا عن النفس، وتوّجته بإنشاء جمعية «حماية» التي تهتم بحماية الأطفال من العنف أياً كان شكله.
– كيف وصلت فيفيان دباس إلى ما هي عليه اليوم؟
من الطبيعي عندما تقدمين المساعدة لأحد أن تجدي من يساندك، فمن هنا دعمني كثيرون، وانطلقت من العمل الإنساني، ففي فترة الحرب اللبنانية كنت مقيمة في باريس وكنا نتعاون مع جمعيات ومنظمات إنسانية لمساعدة اللبنانيين المصابين في الحرب والذين يتلقون العلاج في باريس.
ثمّ فكرت في تأسيس عمل خاص بي، فانطلقت من هوايتي بابتكار تصاميم فريدة. منذ صغري تستهويني الأعمال الحرفية والخياطة، وكنت أصمّم ملابسي ومن ثم مجوهراتي. والفنّ والذوق وراثة في العائلة التي ترعرعت فيها، فوالدتي كانت تتقن فنّ الرسم.
– أمضيت ثلاثين سنة في العمل حتى اليوم، ماذا تخبريننا عن هذه التجربة؟
هوايتي كانت تصنيع المجوهرات، لذا قرّرت أن أؤسّس عملاً خاصاً بي. انطلقت من باريس حيث تلقيت دروساً خاصة في عالم الأحجار والمجوهرات واكتسبت خبرة في هذا المجال خوّلتني تأسيس متجر وضعت فيه كلّ تصاميمي. وعندما عدت إلى لبنان افتتحت ثلاثة متاجر لبيع المجوهرات تحمل اسمي. واليوم حصرت العمل بمتجري في وسط بيروت.
– ما الذي ساهم في إنجاح اسم فيفيان دباس في هذا العالم؟
عندما يُقدِم الإنسان على أي عمل، يجب أن يحبّه من كلّ قلبه. فحتى إذا أراد أن يصنع الخبز، يجب أن يحب هذه الصنعة من كلّ قلبه ليبرع فيها. ولكن إذا طلب الأهل منا القيام بأي عمل يرضيهم، فيما نحن لا نهواه فلا يمكن أن ننجح فيه. كما أنّه لا ينبغي التفكير كثيراً في العمل الذي نختاره، بل الإقدام عليه بقلب كبير ومن دون حسابات كثيرة، لأنّ كثرة التفكير ربما تعرقل العمل.
– بالطبع، في أي عمل نمرّ بمراحل من الصعود والهبوط. فكيف تتخطين المعوقات التي تعترضتك؟
فترة الحرب والتأزّم السياسي في لبنان أثرت سلباً في العمل. فعملي استقطب في باريس زبائن من جنسيات عربية وأجنبية، ولكن في أثناء الأحداث الأمنية وإقفال الطرق في وسط العاصمة بيروت يغيب السيّاح عن لبنان ويمرّ العمل بفترة ركود. ولكن ما إن يتحسّن الوضع حتى تعود الحركة.
لذا اعتدنا المرور في فترات مماثلة نتخطى بعدها المعوقات ويعود العمل إلى طبيعته ونعمل بجهد أكبر للتعويض.
– كي تنجح أي سيدة أعمال، هل عليها أن تكون مدعومة ولها سند؟
القوة موجودة في داخل كلّ إنسان وعقله. أي عمل يجب أن يبدأ صغيراً ومن ثمّ يموّل نفسه بنفسه ويكبر ككرة الثلج. أنا مثلاً بدأت بدعم صغير من زوجي وأكملت المسيرة وعملت بجهد ليكبر العمل يوماً بعد يوم.
– كونك عايشت في مجال صناعة المجوهرات السوقين الأوروبية والعربية، ما الفارق الذي وجدته بين الاثنتين؟
النساء الأوروبيات يهتممن بالقطع الناعمة ويبحثن عن نوعية المجوهرات أكثر من الشكل، بينما المرأة العربية تحب الأناقة والتزيّن بالأكسسوارات وتهتّم بالقطع المميّزة، ولو كان حجمها كبيراً، وتعتني بمظهرها كثيراً، لذا تبحث دوماً عن التجدّد والابتكارات الفريدة والمتميّزة.
– ولمَ لم تفكري في العودة إلى السوق الأوروبية؟
نشارك في معارض عدة، ولنا حضور في أكثر من بلد أوروبي. ولكن ركّزت على لبنان لأنّ الحسّ الإنساني وطبيعة الحياة لا يمكن أن نجدهما في بلد آخر، وهو البلد الذي أرتاح الى الإقامة الدائمة فيه.
– ماذا تخبريننا عن خبرتك في صناعة المجوهرات؟ وكيف تتابعين العمل؟
هو العمل الأحب إلى قلبي، أمارسه بشغف، حتى أنني لا أجيد عملاً آخر. يبدأ العمل بانتقاء الأحجار الكريمة، فأفعل ذلك بنفسي وأرسم التصميم ونُجري بعدها تعديلات حتى أقتنع بالتصميم النهائي. واللؤلؤ هو الحجر الأحبّ إلى قلبي ويناسب كلّ الأعمار. أمزجه مع الخشب والماس والأحجار الكريمة الأخرى.
– ما الصعوبات التي تواجهك في هذا العمل؟
أبرز الصعوبات التي تواجهنا في هذا العمل هي قلّة البيع والطلب، خصوصاً عندما يمرّ البلد بفترة ركود اقتصادي. وفي هذه المهنة يجب بيع الموديلات المنفّذة لنتمكّن من ابتكار أشياء جديدة.
فقلّة البيع تدفعنا للابتعاد عن الناحية الفنيّة للتفكير بالوضع المادي. هذه الصناعة تحتاج إلى سوق وحركة بيع. ولكن تبقى الخسارة في هذه المهنة محدودة، ويمكن التعويض فيها من خلال تذويب القطع وإعادة العمل بالذهب والأحجار الكريمة.
– هل تتبعين الموضة في تصاميمك؟
لا أتبع الموضة كثيراً، فهي في تغيّر دائم، ولكن أتبع ما أحبه وأميل إليه أكثر. في هذه المرحلة مثلاً الأشياء الناعمة هي الرائجة، فأقوم بتصميمها. كما أنّه لا يمكنني إقناع زبون بأن يشتري قطعة لا أراها تناسبه.
– بعد كلّ هذه السنين في المهنة، هل شعرت بالتعب للمحافظة على اسمك؟
تعبت ولم أتعب في آن معاً. لا نشعر بالتعب عندما يكون عملنا متعة، فيكون مصدر سعادة. ولكن بدأت أفكّر في الانتقال أو التركيز أكثر على عمل آخر، هو الجمعية التي أنشأتها، «حماية». كما أنَّ ابنتَي لن تتسلّما هذه المهمّة، صناعة المجوهرات، فلكلّ منهما نشاطاتها الخاصة. والأيام المقبلة ستحدّد لي ما يجب القيام به.
– هل تندمين على شيء؟
لم أندم يوماً على شيء. فأنا أتبع دوماً حدسي وإحساسي. والشعور القوي الذي ينتابنا هو الذي يوصلنا إلى النجاح، فإما أن نكمل أو نتوقّف.
– من الأعمال إلى جمعية «حماية»… لماذا؟
عندما قمت بتربية أولادي لم أشعر يوماً بالخطر عليهم. لكن اليوم مع أحفادي أشعر بذلك في ظلّ التطور التكنولوجي والانفتاح الزائد للأولاد. وفي أحد الأيام ناديت حفيدي ليقبّلني فلم يفعل، فقلت له: إليك حلوى إذا قبّلتني، ففعل. ومن يومها قلت لنفسي إن عليّ التحرّك لحماية الأطفال إذا تعرضوا يوماً للتحرش.
وهذا موضوع غير متداول في لبنان، فالأمّ لا يمكنها أن تتكلّم عن ذلك لأسباب عدة، والولد لا نصدّقه إذا أخبرنا. فأنشأت إلى جانب مجموعة من الأشخاص هذه الجمعية بالتعاون مع ناشطة اجتماعية وافتتحنا مراكز في مناطق عدة في لبنان، وتعاونا مع جمعيات عالمية وأصبحنا على درجة عالية من التخصّص في هذا المجال. وعندما نتبلّغ عن حالة معيّنة، نتابعها ونتحقّق منها لمعالجتها.
– هل تشعرين في «حماية» بسعادة العمل أكثر من مهنتك الأساسية؟
طبعاً، فالسعادة الحقيقية عندما تشعرين بأنك تنقذين روح إنسان. هذا أهمّ من العمل والمال. وأضع نفسي مكان الطفل الذي تعرّض للعنف. كما أشعر بسعادة غامرة عندما أرى نتيجة العمل الذي قمنا به.
فأولاد معنّفون في سنّ الثانية عشرة وصلوا إلى درجة الانتحار أو تعاطي المخدرات وأنقذنا حياتهم ووضعناهم على السكّة السليمة ليكملوا حياتهم بأمان. أشعر بفخر عندما أسمع كلاماً جميلاً عن «حماية» من دون أن يعلم المتكلمون من أنا، ويقولون إنّ «حماية» أنقذت حياة أولادنا وعالجتنا نحن الأهل أيضاً.
– ممن تتلقى «حماية» الدعم والتمويل؟
منظمّة «اليونيسيف» تدعمنا، وقد أعطتنا خمسين في المئة للاجئين السوريين وخمسين أخرى للبنانيين. وهناك منظمات عالمية أخرى تساعدنا. وننظّم عشاء سنوياً نجمع منه المال، فضلاً عن أن هناك أفراداً يتبرّعون لهذا العمل الإنساني. ولا يمكن أن ننسى العمل التطوعي الذي يقوم به البعض بالتزام تام.
– في ظلّ هذه الاهتمامات، هل تخصّصين لعائلتك الوقت؟
لديّ مبدأ لا أحيد عنه. يوم الأحد يجب أن تجتمع كلّ العائلة من أولاد وإخوة وأحفاد، ونمضي وقتاً ممتعاً معاً.
– ما النصيحة التي توجّهها فيفيان دباس، سيدة الأعمال والمهتمّة بالشقّ الإنساني والأمّ؟
أقول لكلّ أم: اهتمّي بأولادك وعلّميهم العطاء والاهتمام بالمحتاجين. لو امتلكنا كنوز الدنيا، لا يمكننا العيش من دون التفكير في كلّ هؤلاء الناس من حولنا. هكذا تربيت، أن أضع نفسي مكانهم، ومن هنا كان لدي متعة العطاء التي علّمتها بدوري لأولادي.