صوتها/فالح عبد الجبار/فاطمة المحسن
“زوجة فالح عبد الجبار”
كتبت مذكراتي بعد مرضي وأهديتها إلى فالح عبد الجبار، كان عنوانها ” الرحلة الناقصة “.
سألني لماذا هي ناقصة؟.
كنت على ثقة بمعرفته قصدي، ولكنه رفض أنْ تَخْلف رحلتي موعدها، وما كنت أظن انه هو الذي سيتركها على نقصانها. رحلة عمر معه فكيف لي أنْ أتذكر الآن نتفاً منها. ما برح الضنى بفقدانه يحجب كل الكلمات الصغيرة والكبيرة، ففالح لم يكن شخصاً بعينه بل هو مرايا من الشخصيات المتكاثرة.
وقدر ما أتعبتني تلك المرايا التي تحيطني مثل دائرة فلكية، قدر ما كانت تمنحني أفقاً مفتوحاً على تجارب ثرة مفعمة بالعنفوان والغنى. كل ارتباكات فالح وجنونه تبدأ وتنتهي عند معركته مع الزمن، الوقت الذي حاول أن يمسك بقرنيه بجماع قوته.
فهو عجول يركض في براري الله كي يسبق الزمن. وإن نظرت إلى الأمر بعين العقل فقد أختار فالح حتى توقيت موته. خاض الحياة بالمناكب وكان شجاعاً بمواجهة المرض، ولو جاز لي التخمين فهو كان هكذا حتى لحظة غيابه الأخير.
أكثر ما كان يرعبه أن يكون عاجزاً يودع أيامه وهو يحدق بالفراغ. ليس من المجدي ان أقول انه أضاف إلى الثقافة العراقية والعربية، فأنا في لحظة ذهول يتفوق فيها الفقدان الشخصي على كل المناقب. لقد جعلني أصدق انه لن يموت، فكم من المرات التي كنت أحدق في تلك النُذر التي تعصف به، ولكنه يخرج منها كما لو كانت لا تعنيه.
وكم من المرات التي قارب فيها الموت وأنكره على نفسه ليبدأ مشروعا بل مشاريع مجتمعة. تحرر فالح من جسده ولكن عقله بقي ينبض بالحياة إلى آخر لحظة، فقد ملك أثمن قيمة للوجود الإنساني : التفكير المتواصل بالظواهر والفضول العلمي.
ساعده عقل رياضي مركّب تتفرع فيه اهتماماته من علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والرياضيات والفيزياء وحتى السينما وكرة القدم والشطرنج. لعل هذه الكثرة عند غيره تبعث على التشتت، وتحتاج حياة منشطرة، بيد ان قدرته على التركيز والاختزال والتكثيف ساعدته كثيرا على تنظيم مساره الفكري نحو أهداف محددة. ولم يكن مثقف طاولة مع أنه جلس عليها كما لم ألتق كاتباً صرف وقتاً في البحث والكتابة مثله.
كان معلماً يفيض بكرمه المعرفي على الصغير والكبير، محاضراً متميزاً ومتفرغاً للإجابة على الأسئلة التي تغمض على الشباب، وكم من واحد منهم أخبرني انه يدين له بالفضل في فتح نوافذ ومسارات جديدة في الدرس والتحصيل.
يكره فالح الطقوس وبروتكولات التأبين، وكان يعرف كل ما يبقى منه ليست تلك الكلمات التي تخطها ساعات الفجيعة، بل التي تعبر زمن الكائن البشري الى ما تركه من لمسات صغيرة أو كبيرة في هذه الحياة الفانية.
يكمل الموت فعل الحرية او هو الوجه الآخر للوجود الفيزيقي للبشر، ولكن الحياة بالنسبة للمشتغل بالفكر، عالم أوسع من وجوده الشخصي، إنه السعي نحو اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة نفسها.
ومع ان فالح كان مولعاً بماركس ومؤمناً باقتران النظرية بالفعل، غير انه كان يملك روحا عدمية لا تعبأ بجسده كمصير، مثلما كان يحمل قلقاً متواصلا من عبثية هذا الوجود ولا جدواه. يطرد هذا القلق بهوس العمل والإنجاز وامتلاك العالم الذي يخاف أن يفلت منه. كنا في سباق مع الوقت في النوم والصحو وفي الصحة والمرض، ولم تكن حياتنا سعادات متواصلة، بل كانت التباينات بيننا عاملا أساسياً في ثراء تلك العلاقة التي يعرف كلانا حاجتنا المشتركة إليها.
تنشط قراءاتنا وأفكارنا بالنقاشات، نتقاطع فيها ونتواصل، نتخالف ونتفق ولكننا نشعر بما لم نقله مرة، عمق تلك الرابطة التي تمتد منذ ما أجهل من الوقت، حتى الساعة الأخيرة التي غادر فيها الكلام. أجد نفسي في آخر المطاف مدينة له بسعادات كثيرة، ومنها سعادة الحياة الثقافية التي عشناها معا : القراءات والسفر والأفلام والصداقات.
ولعلني أذكر تفصيلا منها يلح عليّ في هذا الوقت، وهو تلك السويعات التي قضيناها في نقاشات مفتوحة على الكثير من اهتماماتنا المشتركة.
ففالح قارئ نبه في الفلسفة والفكر، وذكاؤه الاستثنائي ومعرفته العميقة بالكثير من ظلالهما، ساعداني على الوصول إلى ما غمض أو أشكل منها، وكنت أدرك أن عليّ أنْ أعارضه كي أروض ذهني وأصل إلى بوابات جديدة من المعرفة.
كنا نتشارك بمتعة الاهتمامات المتباينة والمشتركة بما فيها من نقص او فيض، ونتبادل المواقع في كل معاركنا مع النفس ومحاولتنا فهم المزيد عنها.
نتخاصم ونختلف ونفترق ثم نعود كما لو لم يكن بيننا هواجس الجنون والوساوس. الفقدان يدفعنا للسير في خط عكسي، حيث يكون بمقدورنا امتلاك تلك الشظايا المبعثرة من ماضينا، فعبثية الموت أقوى من كل تصورنا عنه وعن المستقبل.
إنه يسكن كل غفلة عنه. فكرة فقدان فالح قربتني من المعني الحقيقي للنهاية التي تضعنا في سديم الأبدية الصماء، مع أنني مررت بتجربة تركتني قاب قوسين من الموت وما برحت تسكن جسدي، بيد ان الاختلاف هو في إحساسي بأنه كان معي، أدرك من نبرة صوته قدرتي على ان اجتازها بسلام وبأقل الخسارات. هل كنت على خطأ؟ ربما فبين النهاية والبداية خط رفيع نجهل متى نصل طرفيه.