ليندا منوحين عبد العزيز*
بعد سنوات من العزوف عما يتعلق بالعراق، اثر هروبي مع اخي في نهاية 1970 تفجرت هوة عميقة من الشك والإحباط والغضب بل وحتى الكراهية تجاه من كان سببا في عقابنا، نحن اليهود، الاقلية الأكثر مسالمة في تلك الحقبة من الزمن بل عموما. مع سقوط النظام عام 2003 طرق العراق بابي. فكان حاضرا كل يوم في بيتي، في وقت كنت قد تركت عملي في شركة هاي تيك في إسرائيل. كان لدي المتسع من الوقت لمواكبة سقوط نظام الطاغية صدام الذي كان وراء الكواليس في التعاطي مع الملف اليهودي، وأحد اعمدة حزب البعث الذي لفقوا لليهود تهما لا اساس لها من الصحة بين العمالة والتجسس لحساب إسرائيل. كانت ذروة هذه الأحداث في السادس والسابع والعشرين من شهر كانون الثاني 1969 عندما تم تنفيذ حكم الإعدام بحق 9 من اليهود في ساحة التحرير، بضمنهم شاب لم يكمل السن القانونية.
كل ذلك في سياق المثل العراقي القائل (اكلمك يا بنتي واسمعك يا كنتي). هكذا بدأ حاجز الخوف يرتفع رويدا رويدا لترهيب العراقيين عموما. فلم يكن اليهود المتبقون في العراق بعد الهجرة الجماعية واسقاط الجنسية العراقية عنهم المستهدفين الوحيدين، فقد كان منهم المسيحيون وغيرهم من ذوي الميول السياسية التي لا تتفق ومنهجية ومنهج حزب البعث.
بعد سنوات طوال من ايام سقوط صدام وهناك من قال من حوبة اليهود، بدأت اجازف في التفكير في ايامنا الجميلة في العراق، والتي عكرت صفوته الإنقلابات المتعاقبة والزيارات الليلة لحرس القومي تحت طائلة التفتيش عن شيء مبهم. رأيت في الأفق البعيد الذي طمرته عميقا في ذاكرتي ايام الطفولة الرائعة التي كان فيها والدي المحامي يعقوب عبد العزيز، منهمكا في العمل تارة بتكليف حتى من الحكومة العراقية وهو مشروع لتسجيل ومراقبة الاموال المنقولة وغير المنقولة التي تم الاستيلاء عليها تحت شعار الأموال المجمدة. رفعت ذكريات الماضي الجميل رأسها من بعيد تلوح الي من نهر دجلة حيث كنا نستأجر قاربا كل صيف مع العديد من العوائل العراقية نقضي صيفا مفعما بالحيوية والترابط الإجتماعي مع الطائفة اليهودية ميسورة الحال.
طفولة رائعة في جنة عدن
كيف انسى ايام الشباب عندما كنت انا وابناء جيلي نذهب الى ملعب مناحيم دانيال لقضاء ايام الصيف في لعب تنس الطاولة، وهناك من اهتم بلعب التنس وكرة السلة وكرة الطائرة، بينما اغاني بول انكا تصدح في هذا النادي الاجتماعي الذي ولد الصداقات، وكان شاهدا على قصص حب منها ما ارتقى الى الزواج ومنها ما هوى منبطحا على ارضية تنعدم فيها التوافقية.
رأيت العراق يتمزق من على شاشة التلفزيون وانا لا اصدق ما يجري. وكأن السماء فتحت ابواب اللعنة على ابناء هذا البلد الذي طالما عاش بوئام بين مختلف مكوناته. تذكرت جيراننا من الأرمن والكاثوليك والمسلمين الذين كانوا يعيشون في المشتمل في حي البتاوين، وكيف زوجوا بناتهم في سن مبكرة لأن رب العائلة كان موظفا بسيطا في دائرة المكوس. وعلى الرغم من الفارق بيننا فكنا قريبين من بعضنا البعض نلعب سوية ونتكلم نفس العربية باللهجة المسلمة على نقيض اللهجة اليهودية في البيت ومع الأصدقاء من اليهود.
كانت 2003 منحى في تاريخي وبداية محاسبة النفس والنظر الى العراق ليس من باب ضيق عن مسؤولية اختفاء واغتيال وعشرات من اليهود بالسجن والتعذيب، لكن عن حلقة الطغيان التي افضت الى مجتمع كبير من متضرري صدام.
هذه التجربة التي عشتها منذ سقوط النظام كانت تعلن بدء مسيرة افضت الى بلورة فيلم وثائقي “ظل في بغداد” في محاولة لفتح صفحة جديدة مع الماضي، وما يحمل من ذكريات جميلة قبل ان يفقد العراق من اهم مكوناته في بناء العراق الجديد.
من لا يحترم الاقلية بالتالي لن يحترم الاكثرية
ومع توالي المنشورات والأبحاث المتعاقبة عن تاريخ اليهود ودورهم في بناء العراق الحديث والتوجه الإيجابي الذي رأى علاقة بين السكوت عن تهجير او هجرة اليهود ومعاملتهم، وبين ما آل اليه مصير الأقليات وتقلص اعدداهم. فباتت محطة هجرة اليهود علامة فارقة في تاريخ العراق ونقطة فصل تشغل العراقيين اليوم. وكم كانت دهشتي من الطلقة المدوية التي بادر اليها الصحافي انور الحمداني في برنامجه من قناة الفلوجة للاعتذار عن المصاب الذي الحقه العراق باليهود مطلع الخمسينات، وكان يهمني ان اصل اصوات التسامح ورأب الصدع بين اجيال الحاضر للجمهور الإسرائيلي الذي احدثه بين الحين والآخر، عما جد من خلال تموضعي في خط التماس بين الثقافتين الإسرائيلية والعراقية. وتشهد صفحات الفيسبوك بالعربية والعبرية ازدهارا لم يسبق له مثيل في التواصل بين ابناء الجيل الصاعد، يجمعهم حنين من كلا الطرفين، يبشر حقا بفترة جديدة، يعبر فيها الشعب بحرية عن تطلعاته وآماله بعيداً عن السياسات الحكومية المعقدة. فهل يكون النموذج العراقي هو الأول في كسر العداوة بين إسرائيل والعراق التي لا تقوم على خلاف انما على موروث قومي لا مبرر له؟
* صحفية وكاتبة مستقلة مولودة في العراق، عدا عن كونها ناشطة اجتماعية في إسرائيل وداعية للسلام.