علي حداد: الارهاب بنية فكرية تغلغلت في نسيج المجتمع

محمد الحمامصي

كان د. علي حداد أستاذ الدراسات الأدبية الحديثة والدراسات الشعبية وأدب الطفل في جامعة بغداد، واضحا في رؤيته للقضايا الرئيسة التي تشكل وضع المثقف والمبدع العراقي وما جرى ويجري على الساحة العراقية من إرهاب وانتشار وسطوة للأفكار السلفية والولاءات القبلية والعشائرية والدينية، ومعالجة السلطة لهذه القضايا، مؤكدا أن الأمر يبدو وكأنه متعمد أن يمضي بالعراق إلى مجاهل الخرافة والتدين الاعتقادي والسلفي والمذهبي والطائفي، خاصة في ظل تجاهل وتحجيم واغتيال أدوار المثقف التنويري. وفي هذا الحوار معه تتكشف الكثير من الأوضاع على مستويات عدة منها الثقافي والإبداعي والسياسي والديني في الساحة العراقية اليوم.

وأوضح أن من يتأمل المشهد الشعري العراقي سيواجهه أنه لم تعد فيه من قامة شعرية مهيمنة وطاغية الحضور كما هو الحال في المراحل السابقة، وربما حقق ذلك نوعاً من التحرر من سطوة الأبوة الشعرية والتردد أمامها، وهو ما جعل أجيالاً عديدة تقدم تجاربها من دون أن تتردد أو تقايس أو تتأنى، فامتلأت الساحة الشعرية باشتجار تعبيري يصعب رصده كله، وبرزت تجارب فيها ما استعاد شكل (قصيدة الشطرين) أو ماشاع وسمه خطأ بـ (الشعر العمودي) ولكن بممارسة استوعبت الحداثة في نسق التعبير وتشكيله. وفيها ما تمسك بـ (شعر التفعيلة) والذي وصف خطأ هو أيضاً بـ (الشعر الحر) ولكن بإجرائية تشكيل أكثر حداثة وتطويراً لتجارب الأجيال السابقة فيه.

أما المد الأبزر فهو لـ (قصيدة النثر) الذي تكتبها مختلف الأجيال الشعرية العراقية الحالية، وإن أدرجت في مضمارها كثير من الممارسات الكتابية التي لا تعرف من هذا الشكل التعبيري ما يشترطه من قيم تمثل، فاستسهلته وسدرت تكتبه بنوازع من الفوضى التعبيرية التي ليس لها من الشعر ما يمكن أن تدعيه. وقد تجلى ذلك بكثرة المجاميع الشعرية الصادرة في العراق بعد أن كثرت دور النشر وصار بالإمكان الطبع والنشر من دون رقابة رسمية أو فنية. غير أن ذلك لم ينل من عافية الشعر العراقي وحضوره في المحافل العربية والعالمية، وتميزه وعمق النضج والتأصيل الذي يكنه، ونوازع التجديد التي هي واحدة من سماته العراقية المتأصلة فيه.

ورأى حداد أن المشهد النقدي العراقي يتماهى مع المشهد الأدبي فكلما كان هناك أدب رصين ومتجدد كان هناك حراك نقدي يواكبه أو يجبر على مواكبته، بحكم أن التجربة الابداعية تفجر الرغبات في قراءتها والتواصل معها، لأن الفضاء الذي يشتغل عليه النقد هو الفضاء الأدبي.

من هنا فإن الممارسة النقدية العراقية مبشرة بالخصب دائماً مادام المشهد الأدبي يزخر بالمواهب والامكانيات في السرد (رواية وقصة قصيرة) وفي المسرح وفي الشعر. وعلى هذا يمكن لنا أن أن نتحدث عن مشهد نقدي متسع استوجب التخصص النقدي.

الآن لدينا اتجاهات من النقد متعددة، منها الاتجاه الأكاديمي، لاسيما أن الأكاديمية العراقية ومنذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً قد انفتحت على المنهجيات الحديثة، وعلى استيعاب التجارب الابداعية المعاصرة بعد أن كانت تتجنبها، فظهر لنا نقد أكاديمي مؤطر بأدوات الحداثة، وغادر الأكاديميون الممارسات التقليدية في دراسة الظواهر الإبداعية التي كانت تشغل نفسها بالذات المبدعة وسيرتها وعصرها وما إلى ذلك، لبقدموا نتاجاً نقدياً يستوعب اتجاهات مدارس الحداثة وما بعدها، وصولاً عند الدراسات الثقافية والنقد الثقافي الذي بدا الاشتغال عليها واضح الإنجاز في الدرس النقدي العراقي الراهن.

أيضا لدينا اليوم أكثر من مسار نقدي خارج الأكاديمية، هناك نقاد من أجيال مختلفة يقرأون الإبداع بتخصص بيّن، فمنهم من يهتم بالسرد ومنهم من يهتم بالشعر أو المسرح أو الفن التشكيلي، وهناك النقد الإعلامي أو الصحفي إذا جازت التسمية والذي تستوعبه الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات ويكتب فيها مختلف الكتّاب والإعلاميين بوعي لكن وفقا لاحتياجات الصحيفة أو المجلة وما تخصصه في صفحاتها لذلك.

وأشار حداد إلى أن ذاكرة الحاضر العراقي احتشدت بالوقائع والمآسي والحروب والانكسارات والحصارات ومختلف الظواهر التي تنال من الوجود الإنساني، وهذه مادة ذات طبيعة درامية وسردية لافتة وشادة، الأمر الذي عزز هذا الجانب في السردية العراقية التي تكاد تتفوق بمنجزها وكمها على المنتج الشعري على الرغم من أن العراق يحفل بالشاعرية، فنظرة حسابية لمراحل الإنجاز السردي في العراق منذ العشرينيات وحتى ما قبل الاحتلال الأميركي ستكاشفنا بأن ما أنجز لا يكاد يتجاوز المائة والخمسين رواية، لكن منذ ما بعد الاحتلال وحتى اليوم تجاوز المنتج من الروايات العراقية الثلاثمائة والخمسين رواية، وهذا عدد كبير، لعله نتاج ما راحت تضخه سرديات الهم العراقي المتواترة. فما جرى في العراق لم يكن حربا أو احتلالاً أو حصاراً أو فكراً ظلاميا يريد أن ينال من الحاضر الذي يبحث عن المستقبل والنور فقط، ليكتب كل منها على حدة، ولكن كانت هناك تزاحمات لذلك كله في تكوينات المشهد الإنساني العراقي شرعت آفاق السردية العراقية لتنهل منه بلا حدود. لدينا الآن عدد كبير وأسماء مهمة من الروائيين والروائيات الذين رسخوا وجودهم في السرد العربي، ونالت أعمالهم الجوائز على المستوى العربي والعالمي، ومازال المشهد السردي العراقي يعد بالكثير.

ولفت حداد إلى أن الرؤية الموضوعية لواقع العراق وما حلّ به تقول إن كل ما حدث هو نتاج الاحتلال الأميركي الذي حظي بشكل أو بآخر بمباركة دولية، وقال “إن إفرازات هذا الاحتلال هو ما صنع كل متغيرات المشهد العراقي. لقد تهيأ للعراق أن يغادر أسوار نظام كان يحكم بقبضة حديدية غيبت شعبه عما حوله من منجزات علمية وتكنولوجية.

لقد منع النظام السابق التواصل مع كثير من المطبوعات العربية والعالمية، وحظر الإنترنت وجملة الاتصالات ووسائل الاعلام وكثيرا من الوسائل التي تحقق التواصل مع مجريات الثقافة المعاصرة. وعندما جاء الاحتلال بدعاوى التغيير فقد كان ذلك باتجاه الأسوأ. إن كل الذي حلّ بالعراق هو نتاج الاحتلال، سواء أكان الأمر متعلقاً بمن جيء بهم ليتولوا السلطة، أم ما ساد من ممارسات الفكر الظلامي والسلفي الذي يريد أن يعود بنا إلى القرون الوسطى.

وهنا لا أتحدث في إطار مذهبي أو طائفي، فمعظم (المتأسلمين) الموجودين الآن على الساحة العراقية ـ وباختلاف طوائفهم ـ يمارسون اتجاهاً رجوعياً أكثر منه رؤية نورانية حقيقية لقيم الإسلام، ويفرضون سطوتهم ـ بحكم ما تمتلكه أحزابهم من دعم خارجي متعدد المصادر . لقد صدق الناس البسطاء أن هؤلاء يمثلون الإسلام ونهجه، فتعلقوا ببعض رموزهم وفكرهم، ليسود المجتمع العراقي اتجاه من التدين الاعتقادي الذي تدخل فيه أحيانا الخرافة والطائفية وجملة أمور قد لا يمت أكثرها إلى جوهر الدين وسماحته.

وأضاف حداد: في هذا الظرف غيّب المثقف ودوره، وتسيد خطاب الإعلام كثير من الفاسدين الذين يمتلكون سطوة المال والسلطة، ولا يترددون في استخدام أشد أساليب القسوة وتغييب أي مثقف يناوئهم. وقد حصل ذلك فعلاً مع أسماء كثيرة من المثقفين العراقيين غيبوا أو اغتيلوا، ولا أحد يعرف من اغتالهم وكيف جرى ذلك، الأمر الذي حجم دور المثقف العراقي وجعله يمارس حضوره في حدود فئته الثقافية، تلك التي يتحاور معها ويبثها آلامه ومكابداته، ليعايش هذا الذي يعانيه، ويحيله إلى منجز إبداعي بأشكال مختلفة يضعها بين يدي من يريد أن يقرأها من فئات طلاب الجامعات أو قرّاء الصحف والمجلات.

وقال حداد إنه في ضوء هذا المشهد لا نستطيع أن نتحدث عن دور فاعل للمثقف، هو يحاول ويسعى ويمتلك النوايا ويعقد الندوات ويصدر الكتب ويعايش مكابدات إنسانه، لكنه مطوق بكثير من التراجعات، فالأمية الآن بين الشباب العراقي (من عمر 14 إلى 20 سنة) تتجاوز 40%، والسؤال هنا: من يقرأ المثقف إذن إن لم تقرأه هذه الأجيال؟

من هنا تعاضدت جملة مكدرات للوجود العراقي الثقافي تهيمن عليه، لكن هذا لا يمنع أن المثقفين يبذلون ما بوسعهم من المسعى، فيشاركون في الفعاليات الثقافية المحلية والعربية والعالمية كذلك، ومشاركاتهم تلفت الانتباه إليهم وإلى تميز ما ينتجون، وهم يسعون إلى عرض منجزهم في معظم المعارض العربية. كمعرض القاهرة الدولي الذي شهد حضوراً لافتاً من قبل المثقفين العراقيين. وهو الشيء نفسه الذي حدث مع معرض بيروت الدولي للكتاب.

العراقي قارئ جاد لكن الظرف الراهن، وبحكم جملة معيقات ذكرناها جعلت القراءة والاهتمام بالكتاب والثقافة هما متأخرا في مدونة الإنسان العراقي وانشغالاته اليومية القاسية والمؤلمة، لأنه منهمك اليوم بالبحث عن الأمن والطمأنينة ولملمة مجتمعه وقيمه التي بدأت تتمزق، وهذه كلها يستطيع المثقف أن يكون فاعلا فيها لو منح الفرصة لذلك.

وأكد حداد على أن الثقافة العراقية تعيش اليوم تزايداً في الإنتاج المتميز والرغبة الحقيقية في إيصاله إلى متلق جدير به، لكن الإشكال أنها غير قادرة على التأثير في البنية الاجتماعية لأنها غير مسموح لها أن تؤثر، بحكم وجود سلطة ذات طبيعة سلفية ـ بغض النظر عن توجهها ـ سلطة تخشى الفعل الثقافي، وتنظر إلى المثقف بعين من الريبة. هي تتحاشى الحداثة وتتجاهل الفكر الجدلي وفلسفة العقل الراهنة، تريد من العراقي أن يصبح في حيز أفكارها الدينية الضيقة ولا تريد الثقافة المتنورة الحداثوية. تستنكر الموسيقى والغناء ولا تقبل التنوع في الطرح الثقافي.

وأوضح أن الإرهاب ليس عدوا خارجيا تواجهه ثم تغلق حدودك عنه، الارهاب بنية فكرية تغلغلت في نسيج المجتمع العراقي، لقد هيأ الاحتلال الأميركي أوضاع العراق التي كانت متأزمة أساساً ـ بسبب كثير من ممارسات النظام السابق ـ للانحدار في مهاوي الطائفية، حين أتى ـ بصحبة دباباته ـ كثير من السياسيين الذين كانوا محسوبين على المعارضه، ليقدمهم المحتل لا بتوصيفهم الوطني بل بهوياتهم الطائفية والقومية والمناطقية، وراح يوزع عليهم المناصب على أساس طائفي، فصيرنا مثل لبنان، لكن تجربة اللبنانيين كانت قد ترسخت واستقامت بحكم الزمن الطويل.

العراق كان يعيش تنوعه من المذاهب والقوميات والأديان بمعايشة هادئة. لا لجار يسأل جاره ما مذهبك؟ وما دينك؟ وكانت المحافظات والمدن العراقية بلا استثناء تحتضن الديانات المختلفة المسيحي والصابئي والمسلم، حتى لقد كانت نسبة المسيحين في بغداد كبيرة، لكن مع هذا الفكر الظلامي الذي اشتغل على القضية بتوجيه من المؤكد أنه مبرمج له من قوى كبرى وجدت أن العراق لا يمكن أن ينال منه من بمجرد إسقاط الجيش، لأن بنية الدولة العراقية عميقة ومتجذرة ولا يمكن أن تسقط أيضا الثقافة العراقية لأنها متسعة ومتجذرة وعميقة أيضا، لذا كان الاشتغال على البنية الاجتماعية، لذلك إعادة هذه البنية إلى لحمتها يحتاج إلى وقت، فكما تعرف فإن هدم البنيات الاجتماعية سهل لكن إعادة بنائها يحتاج إلى أزمنة طويلة.

وشدد حداد على أنه حتى إذا حيّدنا المثقفين والنخب التي تتعامل مع الحضارة والمنجز العلمي الحديث بمستوى من الوعي والمعرفة أو التخصص وتبحث عن أدوارها المستلبة في هذا الخضم السلوكي والقيمي المرتبك، فإن غالبية الفئات الاجتماعية العراقية أمست تعود إلى خلفياتها العشائرية ومرجعياتها المذهبية التي لا يمكن لطروحاتها أن تكون كافية للاتجاه نحو المستقبل وبناء دولة حقيقية.

وأوضح حداد: الآن العربي أو المطلع ينظر إلى الوضع العراقي من خلال الماسكين بزمام السلطة، هؤلاء الذين جاء معظمهم مع القوات الأميركية كان أغلبهم في إيران أو سوريا أو لبنان، أو في ملاذاتهم الغربية مدعين أنهم شيعة ومتدينين، هؤلاء هم الذين عكسوا هذه الصورة التي يراها المتابع من الخارج. إلى الآن فإن معظم العراقيين لا يؤمنون مثلا بقضية ولاية الفقيه ولا يقبلون بها إطلاقا، وإيران تقوم فكرها المذهبي على أساس ولاية الفقيه، إلى الآن كما قلت العراقيون يتمسكون بعروبتهم وخصوصيتهم القومية والعشائرية ولغتهم ولهجاتهم الشعبية، لكن المشهد الإعلامي بحكم وجود هؤلاء الذين يملكون زمام السلطة وينتمون إلى إيران بحكم الولاء أو أنهم عاشوا بها، يلوح للآخرين بأن هناك هيمنة إيرانية.

لا وجود لأي تماس أو مساحة فعل إيراني على مستوى البنية الاجتماعية العراقية إطلاقا، العراقيون عرب ومخلصون لعروبتهم ومحبون لإخوانهم العرب في مختلف أماكنهم.

شاهد أيضاً

ناسا تخصص 3 مليون دولار لمن يحل معضلة “القمامة على القمر”

تُقدم وكالة ناسا الأميركية جوائز نقدية بقيمة 3 ملايين دولار لمن يُساعد في حل مُشكلة …

error: Content is protected !!