“الصبية والسيجارة”: رواية كافكاوية ساخرة

كه يلان مُحَمَد

شغل السؤال عن شكل المُستقبل وما يصيرُ إليه الكائن البشري بفعل التحولات المتلاحقة حيزاً واسعاً في المدونات الفلسفية والدينية، وتطلعَ الفلاسفة لإقامة مدن يوتوبية ينعمُ فيها الجميع بالأمان، غير أن هذه النزعة التفاؤلية بدأت بالتلاشي وحلت مكانها نَظرة متشائمة أو عبثية، لعلَّ بوادر هذا التحول تنعكسُ أكثر في الأعمال الأدبية، وهنا تحضرُ رواية «فرنكشتاين» وغيرها من الأعمال الروائية كنماذج أدبية تُنبئ بما سيواجه الإنسانَ من أزمات خانقة، وتأتي روايات فرانز كافكا خصوصا «المسخ» و«المُحاكمة» لتزيدَ من زخم الاتجاه التشاؤمي من سيادة المنطق النفعي، وتغول الأجهزة التي تروم سلب إرادة المواطن من خلال غرس الشعور بالخوف لديه، يقولُ ميلان كونديرا بأنَّ المحكمة لدى كافكا ليست مجرد مؤسسة قانونية مخصصة لمُعاقية المارقين من قانون الدولة، إنما المَحكمة هي القوة التي تُحاكم لأنها قوة.

ينسحبُ هذا التصور لمفهوم المحكمة أيضاً على رواية «الصبية والسيجارة» للفرنسي بونوا ديتيرتر الصادرة مؤخراً بالاشتراك (مسكلياني تونس، منشورات تكوين الكويت) حيث يُدخلك المُتلقي إلى أجواء المحاكم والنقاشات الساخنة حول النصوص القانونية المُلتبسة، ولولا أمنية (ديزيري جونسون) وهو من السود مُتهمُ بقتل شرطي بأن يدخن سيجارة قبل تنفيذ العقوبة ضده لما تأخر توقيت إعدامه، فما يطلبه جونسون أثار إشكالية قانونية فمن جهة يخوله قانون العقوبات إشعال سيجارته الأخيرة كما يحظرُ عليه من جهة أُخرى تحقيق هذه الأُمنية وفقاً لفقرة 176 من النظام الداخلي للسجن، إذا كانت الرغبة لتدخين السيجارة لدى جونسون تُمهله فرصة للحياة فإنَّ هذه الرغبةَ تقودُ من يُوكلُ إليه الكاتبُ بوظيفة سرد أجزاء من الرواية إلى مصير مُختلف.

يخدم التناقض القائم بين المواد القانونية السجين ومحاميته في آن، فالأخيرة يبتسمُ لها الحظُ بفضل أمنية جونسون الإشكالية علماً بأن المحامية اليسارية ماري باتاكي فشلت في معاركها القضائية إلى أن نعتوها بـ(الموت المُباغت) لأنَّ جميع موكليها تلقوا الحقنة المميتة، غير أن ملفها الجديد سيضعها في صف النجومية، إذ سيتدافع الصحافيون مستفسرين عن تفاصيل قرار المحكمة أكثر من ذلك، فإنَّ إحدى شركات التبغ تكفلت بِمُساندتها مالياً وتوفير سيارة خاصة لها، وأنَّ عقوبة الإعدام لا تهم أرباب الشركة بقدر ما يريدون ترويجا لسلعتهم والإبانة عن مُجافاة القانون مع رغبات الإنسان البسيطة، بالمُقابل تبحثُ المحامية عن ثغرة قانونية لإعادة مُحاكمة موكلها، ما يجعلها أكثر إصراراً على ذلك الأمر هو قناعتها بأن جونسون غير مُتورط في مقتل الشرطي، ولكن الجملة التي يتفوه بها أمام مستجوبيه عن الشرطي «كان سافلاً عُنصرياً كبيراً لو أنني رغبت في قتل أحدهم لاخترت بالتأكيد شخصاً من صنفه»، تُثبتُ عليه الجريمة وتقودُ قضيتَهُ إلى طريق مسدود، تلحُ مارين على ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام وإنصاف الفقراء.

بينما تعملُ المحامية في هذا الاتجاه فإنَّ المُتَهَم لا يشغله غير أن يدخنَّ سيجارة بوصفها مُتعة أخيرة قبل أن يسري بجسمه أثر الحقنة المميتة، هكذا تَتَشابك حزمة من الملفات في قضية (جونسون)، لكن الأهمُ من كل ذلك هو التركيز على دور الإعلام وازدياد تأثيره على مناحي الحياة. إذ تجمع حشدُ من الصحافين مترقبين ما تتوصلُ إليه مُداولات القضاة عقب مُراجعاتهم لنسخ من الأرشيف القضائي كما تابعت شركة التبغ العامة حيثيات القرار، نص القرار الأخير على السماح للمتهم بتدخين السيجارة حيثُ تتحملُ شركة التبغ بإيجاد فضاء خاص، وحالما يستهلك السيجارة يتلقي الحقنة، وترافق هذا الحدث تغطية إعلامية مترصدة كل حركات المتهم وما قام به جونسون من الانكباب لرص الورود قد أثار استغراب المشاهدين، وعندما يفسح المجال لتنقل الكاميرا ما خطه (تحيا الحياة) يسودُ انطباع إيجابي لدى المتسمرين حيال الشاشة، من بينهم رئيس الجمهورية الذي يصدر قرار العفو عن المُتهم الذي يُصبحُ من مشاهير المُجتمع، ومادة إعلامية رائجة.

شقُ آخر من الرواية يتناول فيه الكاتبُ معاناة المُسنين الذي وقعوا في أدنى سلم اهتمامات المُجتمع، فضلاً عن هشاشة القيم الأخلاقية لدى جيل واعد، ويُسردُ المؤلفُ على لسان مستشار البلدية الفصول التي تفردُ لذلك الموضوع إذ يُفهمُ مما يعرضهُ الراوي أنَّ الصراع القائم في الوقت الراهن يعوزه البعد الفكري، الأمر الذي يدفع بالراوي لكراهية الطفل ورفض طلب صديقته المصرية (لطيفة) للإنجاب، وما يخيفهُ أكثر هو شعوره بأنَّه محاصر من الأطفال الذين ينالون الأفضلية، سواء لدى أسرهم أو في مرافق الدولة، إذ أنشِئَت لهم حواضن في الحي الإداري في ما هو يضطرُ لأن يُدخنَ سيجارة في دورة المياه تفادياً من أن تفضحه آلة مجسات الدُخان ويتخذ إجراءات ضرورية للتكتم على ممارسة رغبته البسيطة في موقع العمل، لكن ما كان يخافه يصيبه في مقتل عندما تباغته طفلة بفتح باب دورة المياه، إذ يكلفه تصرفه الخشن مع أماندين مُستقبله ويُودعُ في السجن بتهمة التحرش ضد الطفولة، ويشهد فصلا مأساوياً لا يصدقهُ أحد من المستجوبين ولا مسؤوله في العمل، والأسوأ من ذلك يخولون الأطفال بمحاكمته ولا تنفعُ توسلات لطيفة لدى العُمدة، كما لا تتحول محامية جونسون إلى خشبة النجاة، وحين يسمعُ تعليق في السجن بأن السلطة باتت بيد العاهرات يستعيدُ الراوي تصرفات والدة أماندين وإيماءاتها للطفلة لتكرار الاتهامات ضد المُتهم بالتحرش. ويعرجُ المؤلف في مفصل آخر من عمله نحو ظاهرة الإرهاب بدون أن يفارقه الحس الساخر إذ تعلنُ عصابة كابوي انطلاق برنامج أكاديمية الشهداء بمشاركة رهائن واقعين في قبضة العصابة وهم من جنسيات مختلفة إذ ما هو مطلوب من هؤلاء هو تقديم الأغاني، ومن اكتسب أعلى نسبة من التصويت يتأجل موته، بعد سلسلة من حلقات مثيرة وتلهف المواطنين للمشاركة يتطوع المتهم بالتحرش ضد الأطفال ليبادلوه بأحد رهائن ويرغب في إنقاذ تاجر الخمر ويقطعُ مسافات قبل الوصول إلى حدود لبنانية وسورية هنا يخذلونه من جديد بدلاً من إطلاق سراح التاجر يكون كبش فداء للشاب كيفن، ويزدادُ عددُ رواد الإنترنت ما إن تبدأُ مُسابقة بين المتطوع المثقــــف ودانيال فالأول لا يخطئ في الإجابة إلى أن يدرك بأن وفرة ثقافته لا تخدم المقابل يتعمد في إجابات غير صحيحة، وبهذا يختار الموت ويذبحُ على مرأى الجميع. تجمعُ هذه الرواية ثيمات عديدة في أعطافها لعلَّ أولها تحول الإنسان إلى كائن مُتفرج، ومن ثُمَّ غزو النزعة الاستهلاكية لكل مجالات وإهمال المسنين والتمييز العنصري. تدني الذوق الإنساني إلى حد الاستمتاع بمشاهد الموت. يشارُ إلى أن بونواديتيرتر ألف هذه الرواية سنة 2005 وحدد سوريا موقعا للإرهابيين وفي ذلك يكمن الجانب التنبؤي والحدس الروائي.

شاهد أيضاً

٤٥ ألف كتاب مجاني بأكبر مهرجان للقراءة في العراق

انطلاق الموسم ١١ لمهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ” بحضور أكثر من ٣ آلاف شخص شهدت …

error: Content is protected !!